يبدو أن السودان دخل في دائرة مفرغة من العنف والاقتتال الذى يسمح بتفجير الأوضاع الأمنية في العديد من أقاليمه، في ظل ما تشهده هذه الأقاليم من تصاعد الصراع على السلطة دون الوطنية بين النخب السياسية المحلية المتنافسة والميليشيات، لتأسيس سيطرة محلية على الأرض أو لتأكيد السلطة بالقوة، وهذه الصراعات لا تعتمد على دعم جماعات وهيئات داخلية فقط بل تمتد التعزيزات التي تحصل عليها من الجوار الإقليمي، مما يصعب من احتوائها وتحقيق مطالبها التي لا تكون موحدة أو تعبر عن كافة الجماعات التي تنتمى للإقليم الذى تعيش فيه، مما يخلق دوائر للعنف بصورة مستمرة. هذا فضلاً عن وجود مواجهات بين الجيش الوطني
وبعض الحركات المسلحة في السابق، كما أن قوات الدعم السريع حاربت بجوار الجيش أو بمفردها قبائل وحركات مسلحة في الكثير من المناطق، فهل ستسمح بعض الحركات المسلحة وخاصة التي لم تنضم إلى الاتفاق الإطارى أو إلى اتفاق سلام جوبا، باستخدام مناطقها في الصراع بين الجانبين كما يحدث في دارفور، أم أن الأيام القادمة يمكن أن تشهد تصعيداً من جانب عدد من الحركات المسلحة للنأي بمناطقها بعيداً عن الصراع، مما يزيد من تسليح الحركات المسلحة القائمة وتبرز في إطاره حركات مسلحة جديدة، كما يفتح المجال أمام إزكاء المطالب الانفصالية لبعض المناطق مثل شرق السودان أو إقليم دارفور.
وهنا، لابد من توصيف الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع على نحو أكثر دقة، مع توضيح للأهداف الحقيقية لطرفي الصراع، فهل الطرفان يبحثون عن مكاسب سياسية واقتصادية أكبر خلال المرحلة المقبلة؟ وهل يوافق كل طرف على مشاركة الآخر معه في المكاسب؟
أم أن الطرفين يديران مباراة صفرية يسعى كل منهما من خلالها لمحو الآخر؟ وهل الطرفان يسمحان بالعودة للعملية السياسية بمشاركة المكون المدني؟،
أم يتصور أيهما أنه سيفوز بالسلطة دون شريك؟ وهل المكون المدني في الحكم سيسمح بمشاركة الجيش أو قوات الدعم السريع في العملية السياسية؟ أم سيعتبر قادة هذا المكون أن الجرائم التي ارتكبت تطمس أي مشاركة للمكون العسكري في تحديد مستقبل السودان، وأخيراً، هل يمكن تدشين عملية سياسية للحكم في السودان بدون مشاركة الجيش في ظل وجود هذا الكم الهائل من الحركات المسلحة التي تبلغ وفق بعض التقديرات ما يقرب من 87 حركة مسلحة.
ويعول الكثيرون على الأدوار الإقليمية ومدى تأثيرها على استعادة الاستقرار فى السودان، ودفع طرفي الصراع لتنفيذ الهدنة التي تم اختراقها أكثر من مرة دون مراعاة لما وصل إليه الشعب السوداني من أوضاع إنسانية كارثية. فرضت طريقة وتوقيت خروج عمر البشير من السلطة بعد رئاسته للسودان لثالثة عقود اشتراك مجموعة من الفاعلين غير المتجانسين في إدارة البالد في مرحلة انتقالية ممتدة. وتعد التجربة السودانية مثال ل تقاسم السلطة الشامل الذي يستهدف دمج أكبر عدد من الفاعلين في بنية مؤسسات الحكم الانتقالي، حيث يقوم تقاسم السلطة الذي تشهده البالد منذ عام 2019 على شراكة تجمع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وقوى إعلان الحرية والتغيير وعدد كبير من الحركات والفصائل المسلحة.
وقد تم تأسيس هذا النمط الموسع لتقاسم السلطة عبر مرحلتين، تمت الأولى منهما في أغسطس من عام 2019 بتوقيع الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري الانتقالية وقوى إعلان الحرية والتغيير، بينما اكتملت الثانية في أكتوبر من عام 2020 بتوقيع اتفاق جوبا للسالم بين حكومة السودان الانتقالية وعدد من الفصائل المسلحة.
لكن الأزمة الممتدة التي قادت لقرارات الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 هددت بقاء نموذج تقاسم السلطة الشامل دون أن تعني تقويضه. فمن ناحية تضمنت هذه القرارات حل مجلسي الوزراء والسيادة والدعوة لتشكيل حكومة من التكنوقراط، ومن ناحية أخرى أقرت هذه القرارات استمرار الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا كمرجعيات رئيسية.
ويقدم نموذج تقاسم السلطة الشامل فرصا خلال إنهائه عدد من الصراعات الممتدة خاصة في غرب البالد وجنوبها، وإسهامه في بناء توافق عام بشأن إجراءات المرحلة الانتقالية، و الحد من فرص وعودة نظام الإنقاذ. لكن في الوقت نفسه يحمل نموذج تقاسم السلطة الشامل في السودان تحديات عديدة للمسار الانتقالي أبرزها إطالة أمد المرحلة الانتقالية، و إكساب إجراءات الانتقال السياسي المزيد من التعقيد ، و عدم شمول التوافقات بعض الحركات والفصائل المسلحة الأكثر تأثيرا
يزخر السودان بمجموعة كبيرة من الحركات المسلحة، إذ لا يحتكر الجيش الوطني استخدام القوة، حيث تبرز المظالم التاريخية والخلافات حول قضايا التهميش والعنصرية والصراعات على السلطة والثروة في مناطق عديدة، وتعد هذه المعضلة من أهم أسباب استمرار عوامل عدم الاستقرار وكثرة المطالب الانفصالية التي تضغط بقوة على أفكار التوافق والوحدة الوطنية التي سعى إليها الشعب السوداني عبر ثورته المجيدة.
وكانت فكرة تأسيس جيش وطني موحد في السودان تمثل أحد الأهداف التي سعت إلى تحقيقها ثورة ديسمبر 2018، واتخذت خطوات لتحقيق هذا الهدف، حيث تضمن اتفاق جوبا للسلام تأكيداً على دمج هذه الحركات وقوات الدعم السريع ضمن الجيش الوطني، كما نص الاتفاق الإطارى، الذى جاء عبر مشاورات وورش عمل بين مكوني الحكم (المدني والعسكري)، على دمج هذه الحركات وقوات الدعم السريع في إطار الإصلاح الأمني والعسكري، مع التأكيد على أهمية أن تصبح المؤسسة العسكرية مؤسسة احترافية وأن تبتعد عن العمل السياسي، حيث يعد هذا الهدف أحد الأسباب التي قادت إلى الوصول إلى توافق بين عدد من أطراف المكون المدني والمكون العسكري خلال الشهور الأخيرة، بعد أن أعلنت المؤسسة العسكرية استعدادها للابتعاد عن العملية السياسية والعودة إلى ثكناتها.
ومع وجود حركات مسلحة رفضت الانضمام إلى اتفاق سلام جوبا، بذلت محاولات عديدة لضم هذه الحركات خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان-الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان فصيل عبد الواحد نور، إلى عملية السلام، وهما أكبر حركتين مسلحتين خارج اتفاق سلام جوبا، كما تم تشكيل ثلاث مجموعات مسلحة في ديسمبر في وسط وشرق السودان، حيث ترفض هذه المجموعات اتفاق جوبا للسلام الذى ينتظر أن تتم مراجعته عبر الاتفاق الإطارى
وقد انضمت بعض الحركات المسلحة إلى المناقشات التي عقدتها ورش العمل لصياغة المسودة النهائية للاتفاق الإطارى الذى نجح المكونان المدني والعسكري في تدشين مبادئه في الخامس من ديسمبر الماضي (2022)،
حيث بذلت جهود مختلفة خلال الفترة الأخيرة لجذب الحركات الرافضة للاتفاق الإطارى، ومن أهم هذه الحركات حركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة منى اركو مناوى، حيث ترفض الحركتان مناقشة اتفاق جوبا لما يمكن أن ينتج عن هذا من إعادة توزيع للسلطة لا يتفق مع مصالح الحركتين.
وبعد اتصالات أجراها مبعوث الأمم المتحدة توم إيريك فرالسن أعلن يوم 15 يناير 1999 في نيروبي أن حكومة الخرطوم مدّدت وقف النار لثلاثة أشهر في منطقة بحر الغزال، وسبق إعلان المسؤول الدولي تأكيد الناطق باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان في نيروبي أيضاً الموافقة على وقف العمليات العسكرية ثلاثة أشهر أخرى للمساعدة في جهود الإغاثة الإنسانية في جنوب البلاد الذي يعاني المجاعة. وأوضح الناطق باسم الحركة أن وقف النار سيستمر في منطقتي بحر الغزال وغرب أعالي النيل، وسيوسع للمرة الأولى ليشمل ولاية وسط أعالي النيل.
وفي محاولة لوضع حدّ للاقتتال الذي استمر بين الفصائل الجنوبية السودانية. أكدت مصادر رسمية في جبهة الإنقاذ الديمقراطية الجنوبية. التي يقودها “رياك مشار” رئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية: أن ممثلين عنها توصلوا إلى اتفاق لوقف إطلاق نار شامل مع ممثلين للجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يقوده العقيد “جون قرنق”، وذلك في 7 مارس 1999.
وقالت هذه المصادر في تصريحات صحافية: إن محادثات جرت على مدى أسبوع في بحر الغزال (جنوبي البلاد) بين الطرفين أدت إلى اتفاق سيؤدي إلى تهيئة الأجواء في المحادثات المرتقبة بين الجيش الشّعبي والحكومة السودانية في أبريل 1999 في العاصمة الكينية نيروبي تحت رعاية دول منظمة الإيقاد.