الواقفون على جبل النور هذا العام بل وكل عام..عالم مختلف جدا ..يزهو باشراق انوار من نوع خاص جدا تنشر سذاها وعبيرها الفواح على العالمين الذين جاءوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم في دينهم ودنياهم واخراهم ..انوار سرمدية ابدية لا ينقطع وصلها ووصالها على مر الزمان من المحبين والعاشقين المخلصين الذين يشدون الرحال بحثا عن النور الحقيقي..
لا اعرف سر التعلق بمتابعة تفاصيل المشهد هذا العام خاصة على محور “الصاعدون “الى قمة جبل النور مع ان المشهد كله مهيب على صعيد عرفات وفي كل المشعر الحرام ومن حوله .. ربما يكون لتدفق المزيد من الصور الحية للصعود على وسائل التواصل الاجتماعي سواء البث المباشر او غيره من اللحظات التسجيلية لافراد بسطاء او لعلماء كبار ومشاهير ايضا ..
وقد يكون للاهتمام الشديد من جانبي بتفاصيل الحدثحيث اتابع رحلة الصاعدين الى الجبل واراقب انفعالاتهم واحاسيسهم واغبطهم على ما هم فيه وحرصهم على ان يلتمسوا اثر الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبعون اثار اقدامه وربما يشمون رائحة ذكية تفوح من ارجاء المكان مع نعاقب القرون والازمان..
وقد يكون لطبيعة المتطلعين إلى النور الحقيقي .. وقد تكون نوبة صحيان أو لحظات تجلي نادرة أو رغبات حميمة في استشراف ومعرفة كنه ما جرى ويجري أو بريق وجاذبية نور الانوار الكامن في سحر المكان شديد الغموض والقسوة .. وقد يكون لكل هذا وذاك ..
جبل النور محطة مهمة ومحط أنظار وتطلعات الكثيرين من المؤمنين والمهتدين والسائرين في دروب النور والباحثين عن مسالكه حتى ولو كانوا غير مؤمنين أو لايزال إيمانهم محل شك .. أو ممن يغالبون وساوس الشيطان الرجيم أو حتى من عقدوا صفقة مع الهوى وغرور العناد وضلالات المضلين وممن سقطوا في غواية التمرد على منهج الله بأي حال من الأحوال..
جبل النور واحد من اهم واشهر الجبال المعروفة في مكة مثل : جبل عرفات وجبل الرحمة وهو أشهر مكان في مشعر عرفات بعد مسجد نمرة.الذي وقف عليه وألقى منه خطبة الوداع.
وهناك جبل أبى قبيس أول جبل وضع على وجه الأرض ويسمى أيضا بالجبل الأمين بسبب احتفاظه بأمر من الله بالحجر الأسود في بطن الجبل لأن الركن الأسود كان فيه مستودع عام الطوفان فلما بنى إبراهيم الخليل البيت نادى أبو قبيس أن الركن مني بموضع كذا وكذا وقيل أتى به جبريل من الجبل وسلمه إلى إبراهيم. وقيل سمي بأبي قبيس لأن الحجر الأسود اقتبس منه
وهناك ايضا جبل الكعبة أومقلع الكعبة ويستمد أهميته من كون الأحجار المستخدمة في بناء الكعبة مستقطعة من صخوره.
وجبل النور اكتسب أهمية تاريخية لأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يخلو فيه بنفسه ليعبد الله قبل البعثة في غار حراء وفيه نزل الوحي على النبي لأول مرة. وسمى بهذا الاسم لظهور أنوار النبوة فيه..
فقد كان النبي يخلو بغار «حراء» فيمكث فيه ليالي متواليات وكان يتزوّد لذلك وكان يتعبّد ويدعو على الطريقة الإبراهيميّة الحنيفيّة والفطرة السليمة المنيبة إلى الله.والغار فجوة فى الجبل بابها نحو الشمال طولها 4 أذرع وعرضها ذراع وثلاثة أرباع ويمكن لخمسة أشخاص فقط الجلوس فيها فى آن واحد. والداخل لغار حراء يكون متجهًا نحو الكعبة كما يمكن للواقف على الجبل أن يرى مكة وأبنيتها.
يبلغ ارتفاع الجبل 642 متراً وينحدر انحداراً شديداً من 380 متراً حتى يصل إلى مستوى 500 متر، وتشبه قمة الجبل القبة أو سنام الجمل.
أعداد كبيرة من الحجاج الراغبين فى أداء صلاة الفجر بالقرب من المكان الذى نزلت فيه أولى كلمات الوحى تصعد الجبل فى رحلة تسلق صعبة فى مسار لا يتسع سوى لشخص واحد سالكين ذات الطريق الذى سلكه النبى محمد قبل أكثر من 1400.
اكثر المشاهد تأثيرا واثارة مشهد الحاج إبراهيم ريتشموند من جنوب افريقيا وكان قسا كبيرااسمه ابراهام وله اتباع كثرحيث عمل رئيسا للكنيسة لمدة خمسة عشر عاما واسلم مؤخرا ومعه الالاف من انصاره وكان يبكي بكاء حارا وهو امام جبل النور ولم يكن يصدق نفسه انه موجود في المكان الذي كان يتعبد فيه الرسول ..قال وهو يقاوم نصائح له بعد الصعود الى الغار لان الامر شاق وقد لا يتحمل: هذا شيء لا يمكن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، عندما جاء إلى هنا كان وحيدًا سأتبع خطوات قدمه أنا مؤمن باتباع خطواته ملايين من قومي في جنوب إفريقيا سيتبعون هذه الخطوات لرؤية النور هذا جبل النور أنا أول واحد بين عائلتي يلمس هذه التربة… التربة المقدسة، جبل النور من أجل هذا جئت إلى هنا, إنني أشعر براحة، أريد الصعود للأعلى لا شيء صعب عندما يملأ القلب النور، باسم الله لا شيء صعب، سيجعلها الله سهلة عليّ، أنا سعيد لأجل ذلك إنها تجربة شعور الحاج، أنا سعيد جدًا ومحظوظ لأُعطى هذه الفرصة وأنا ما زلت هنا، لأنه قد لا توجد فرصة أخرى لا حقًا، هو نورنا .. نور العالم ليشع نوره في أرجاء العالم، ويغفر لنا ذنوبنا].
**موقف الحاج إبراهيم ريتشموند امام جبل النور ذكرني بواقعة رواها الاديب والمفكر الكبير محمد حسين هيكل عندما زار المستشرق المجري «جون جرمانوس» جبل النور وهو يؤدي الحج بعد ان اسلم وقدمت اذاعة بودابست حلقات عن الزيارة فاخذت الغيرة الاستاذ هيكل الذي كان متكاسلا او متباطئا في السفر الى مكة.. بعدها عزم عزما اكيدا على السفر وادى المناسك ووقف على جبل النور.. وقدم لنا تحفة ادبية بديعة من هناك وضعها في كتاب يحمل عنوانا فريدا ومميزا: في منزل الوحي.. قدم خلاله كثيرًا من المعاني التي جاشت في خاطره أثناء زيارته لمهبط الوحي وموطن الرسالة المُحمدية فكانت خواطر مليئة بالإيمان تبحر في أعماق الماضي بصورة حديثة
وحكى في المقدمة قصة المستشرق المجري «جون جرمانوس»الذي أسلم وتسمى باسم عبد الكريم جرمانوس والذي زاره في مصر غير مرة ثم ذهب من مصر إلى الحجاز فقضى بها أشهر الحج يقول :وعاد فلقيني وقص عليَّ شيئًا مما مر به أثناء رحلته، فلما أتم إذاعته من «بودابست» أقفلت أداة «الراديو» وقد علاني الوجوم وقلت في نفسي: أويكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزما مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟! وهل تراه يطيق من مشقة الحج ما لا أطيق؟ وشعرت بما في ترددي من تجديف يجب أن يتنزه عنه إيماني بالله وثقتي بنفسي.
وينقل لنا الدكتور هيكل بعضا من الفيض النوراني الذي حل به وهو على جبل النور وما اعتبره فتحا من الله عليه يقول:ولقد رأيت حقٍّا من آياته الكبرى فسَمَتْ هذه المواقف بنفسي إلى حيث لم تسْمُ من قبلُ قط، رأيت نور لله ماثلًا في كل دقيق وجليل من خلقه، ورأيت آية الهدى متجلية يشهدها كل مَن أراد أن يفتح لها قلبه وبصيرته، ورأيت سُنته في الكون تتبدَّى لكل من أخلص”.
**من بديع ما كتب عن غار حراء ما خطه الاستاذ احمد امين في كتابه الشهير “فيض الخاطر” حيث قدم لمحات مضيئة لتلك اللحظات التى سبقت انبعاث انوار النبوة والحالة التى كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم سواء في علاقته مع القوم من حوله وطريقة تفكيرهم واسلوب حياتهم وغير ذلك :”أكبر الظن أن «محمدًا» في هذه الفترة وعلى الأخص في غار حراء كان في حيرة ما أشدها من حيرة عبر الله عنها بقوله: ووجدك ضالًا فهدى».
لقد عرف قومه فلم يعجبه دينهم ولا نوع حياتهم ولا كفرهم ولا إيمانهم ولا أخلاقهم وسافر إلى الشام فرأى فيها مدنية الرومان بمالها وأعمالها التجارية وترفها ونعيمها ودينها الرسمي ومظاهره، فلم يعجبه شيء من ذلك. لقد رآهم يعيشون كما يعيش السمك يأكل بعضه بعضًا أو كما تعيش الذئاب والشياه في حظيرة واحدة.. رحماك اللهم! ما هذه الحيرة الشاملة؟ لا البداوة بسذاجتها ونظامها أعجبته، ولا الحضارة بترفها وزخارفها أعجبته. لم يعجبه ما رأى من وثنية، ولم يعجبه ما رأى من نصرانية. فأين الحق؟
لقد اطمأن إلى شيء واحد هو أن كل ما رأى ضلال وحيَّره شيء واحد هو سؤاله أين الهُدَى!
حالة نفسية إذا تملكت نفسًا مرهفة وشعورًا دقيقًا ملكت نفسه وغمرت قلبه؛ فحلا له أن يعتزل الناس لأنهم يحولون بينه وبين تفكيره، ويقطعون عليه سلسلة مشاعره.
لقد جرب العزلة الساعة واليوم فوجدها تفتح قلبه وتريح نفسه، ووجد فيها مفتاحًا لحيرته، واتجاهًا لهدايته، فبالغ فيها حتى بلغت الشهر!
يخلص صاحب فيض الخاطر الى ان كل ذلك أو أكثر من ذلك كان يخفق له قلب محمد في غار حراء.لقد عرف الباطل ويريد أن يعرف الحق وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى ولم يحب ما عليه الناس ولكن يريد أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه الناس.
هذا الظلام فأين النور؟ وهذا العمى فأين البصر؟ وهذا ما يجب ألا يكون فأين ما يجب أن يكون؟
لقد طلب الحق في غار حراء بعد أن تهيأت نفسه واستعدت روحه وكملت مشاعره وتُوجت بالحيرة فكانت حيرته إرهاصًا لليقين وضلاله إرهاصًا للهدى.
من أجل هذا لم يذهب — وقد حار — إلى معلم يعلمه الكِتَاب ولا إلى مثقَّف بالكتب والأديان وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة على فطرتها مفتوحة أمام قلبه وحيث يتصل هو وهي بربها وربه.
لقد كانت فترة غار حراء بتعبير احمد امبن الحد الفاصل بين محمد بشرًا، ومحمد بشرًا رسولًا. لقد صعد إليه إنسانًا حائرًا، وهبط منه إنسانًا نبيًّا، مهتديًا مطمئنًّا. صعد شاكًّا وهبط مؤمنًا. لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شيء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره.نزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه وأن يُحيوا قلبهم من حياة قلبه وأن يسمعوا لصوت الله على لسانه وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره.
** يا له من نور لا يزال يشرق على العالمين من جبل النور ..
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com