من جديد ومع عبقرية النضال والصمود اللامحدود يكتب أهل غزة ملحمة خالدة لنصر استراتيجي برونق خاص جدا لا تجده إلا في رحاب أرض فلسطين الحبيبة..
أخيرا وبعد ما يزيد عن عام وثلاثة أشهر وضعت الحرب أوزارها في هدنة مؤقتة مع الكيان الصهيوني بعد مباحثات مضنية ومتعددة ..
استمرت المفاوضات عبر عدة جولات بوساطة مصرية قطرية أمريكية، حيث تم التوصل لاتفاق التهدئة ووقف إطلاق النار وإدخال المساعدات وبدء مرحلة أولي لتبادل الأسري وعودة الحياة لقطاع غزة.
ورغم مرارة مشهد العودة وإجترار ذكريات مؤلمة لعشرات الآلاف ممن إستشهدوا وفقدوا وإصيبوا، تبقي دماؤهم الطيبة مسكا يفوح بالعزة والأنفة والكرامة في وطن محطم، لكن سهام الغدر لم تنل من نفوس قوية آمنت بأن الحياة والحرية الحقيقية مع مكابدة التحديات وصناعة الأمل والإصرار ورفض التهجير القسري مهما كانت النتائج والعواقب..
إنها عقيدة وقناعة النضال المستدام، إما النصر أو الشهادة.
عاد أبناء غزة للديار التي تحولت إلى أطلال وأكوام من الحجارة والرماد، وستظل شاهدة علي بشاعة جرائم الكيان الإسرائيلي الغاصب بصلفه وعناده وتجبره.
واليوم يقف العالم إجلالا واحتراما وتبجيلا لأهل المجد والصمود.
وكما هي محطة فارقة في صناعة الصمود والأمل ستظل حرب غزة محطة سوداء في جبين قوات الاحتلال وأعوانهم من المتواطئين والصامتين والمتخاذلين..
وبكل المعايير والمقاييس المادية والدنيوية قد يري البعض أن أهل فلسطين خرجوا خاسرين وتسببوا في تدمير بلادهم وإزهاق أرواح الأبرياء، وبمعايير العزة والأنفة فقد حافظوا على هويتهم وعززوا روح النضال، وحققوا نصرا استراتيجيا تمهيدا للنصر الأكبر وحتي يأذن رب العزة بأمر كان مفعولا..
لقد خاض الكيان الصهيوني حربا غير متكافئة وغير عادلة مع المدنيين ومع الأبنية والمنشآت بروح انتقامية غادرة لم تعرف الرحمة ولا قواعد الحروب والنزاعات الشريفة التي تجرم وتحرم قتل وإبادة الأبرياء والمدنيين والأطفال والعجائز ومهاجمة دور التعليم والعبادة وكافة المؤسسات المدنية.
ورغم بشاعة ما اقترفه الكيان المحتل من جرائم في حق أهل غزة، وما سطره من تجاوزات ومخالفات ترفضها لوائح وأعراف القوانين الإنسانية والأممية، فقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها الخبيثة بالقضاء علي المقاومة ورموزها وتهجير أهل غزة وتصفية القضية الفلسطينية إلي الأبد!.
وفي تقديري سيظل مصطلح “الصمود الاستراتيجي اللامحدود” لا يليق إلا بأهل فلسطين فقد ارتبط بهم واصفا قدراتهم الفائقة على المقاومة والتمسك بحقهم العادل وفي مواجهة صنوف التحديات والصعوبات التي واجههتهم عبر التاريخ، بداية من التهجير القسري عام 1948، فالاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، وسلسلة من مخططات الاستيطان والمذابح وتقسيم الأراضي الفلسطينية، والمعاناة المستمرة جراء سياسات التجويع والحصار الاقتصادي والاجتماعي.
ومابين مشاهد الأمس واليوم تعود بي الذاكرة لسطور وصفحات من أدب المقاومة الخالد الذي نقل تجارب وحكايات من أرض النضال ..
ففي روايته “عائد إلى حيفا” يروي الشهيد “غسان كنفاني”ـ التي اغتالته ايدي الصهاينة غدرا ـ صورا من قناعات الكفاح والصمود، وربما تكون في نصها عملا أدبيا رِوائيا، إلا أنها في نصها الإنساني تجربة عاشها “غسان كنفاني” وعاشها كل فلسطيني، تجربة جرح وطن، وعذاب إنسانٍ عانى قهرا وظُلما وحِرمانا وتشردا، إلا أنها دائماً وأبداً تحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في الوجدان.
وفي “عائد إلى حيفا” يرسم “كنفاني” الوعي الجديد الذي بدأ في التبلور بعد نكبة 1948..
وجاء البناء السردي للراوية محاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهوم العودة ومفهوم الوطن، فسعيد وزوجته صفية العائدان إلى مدينتهما “حيفا”، التي تركا فيها طفلهما منذ عشرين سنة تحت ضغط الحرب يكتشفان أن الإنسان في نهاية الأمرِ “قضية” وأن فلسطين ليست استعادة ذكريات، بل هي صناعة للمستقبل.
وفي رواية “الطنطورية” والتي صدرت سنة 2010
للأديبة المصرية “رضوى عاشور”، زوجة المناضل “مروان البرغوثي” ، تسرد الكاتبة سيرة متخيلة لعائلة فلسطينية، منتسبة إلى قرية الطنطورة، بين سنتي 1947 و2000، تم اقتلاعها من أرضها بعد اجتياح العصابات الصهيونية للقرية، لتعيش تجارب اللجوء في لبنان والإمارات ومصر
وتحكي “رضوى”عن رقية وحياتها من طفولتها في قرية الطنطورية منذ عام1948 وحتى صارت جدة.. تلك الفتاة التي بدأت حياتها برؤية أكوام الجثث لأبيها وأخوتها وأهل قريتها في مذبحة الطنطورية..
وقد عايشت كل أنواع المذابح صبرا وشاتيلا وغيرها…مرورا بالقصف والحرب الأهلية بلبنان بعد أن تم تجهيريها وتزوجت وانجبت وعاشت هناك
مرورا بأزمة الفلسطنيين في لبنان، ومرورا بكل الحروب وما تخللها من قصف ومذابح وخسارة الأهل الواحد تلو الآخر
فقط.. نحن نتحدث عن فقدان الحياة كاملة.. وحين بدأت المذبحة في القرية هربت جميع الأسر من بيوتهم وياللعجب اغلقوها بالمفاتيح، وأخذوا معهم مفاتيحهم، وقامت كل سيدة بوضع مفتاح دارها في سلسلة تعلقها في رقبتها ولا تفارقها ابدا !.
وفعلت هذا والدة رقية بطلة الرواية حتى ماتت
ثم ارتدت سلسلة “المفتاح” رقية من بعدها..
ثم يأتي مشهد النهاية لتضعه في رقبة حفيدها رقية الصغيرة، فلديهم أمل عجيب أنهم سيعودون إلى ديارهم ويجدون المفتاح يصلح لفتح باب الدار من جديد!.
وتبقي القواسم الوجدانية المشتركة بين قناعات الشعب الفلسطيني الصامد “أمس واليوم وغدا”.. وتبقي القضية حية في القلوب.
ورغم جراح أهل غزة المندملة، ورغم كيد الخائنين والمرجفين ستظل أرض الكنانة كما قدر لها الله حصن الأمان لكل العرب والمناصر الأول لقضية فلسطين كي تبقي علي وجه الحياة، وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وتبقي عبقرية الصمود منحة ربانية وقدر مشرف لأصحابه، وأعز أبطاله وتوج جبينهم بالعزة والكرامة واستحقوا وعد الله الحق الذي لا يتبدل ولا يتغير..
وسيظل مبعث الصمود الثقة بوعد الله وتحقيق النصر..
وصدق الله العظيم عز وجل وهو القائل في محكم التنزيل:
{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا…} (الإسراء: 4 ـ7).
وتبقي بشريات المولي عز وجل :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيًفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَا يَجْمَعُونَ }. يونس 58.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.