فإن من أهم الواجبات الإسلامية التي يترتب عليها صلاح المجتمع وسلامته ونجاته في الدنيا والآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك هو سفينة النجاة، – إن محبة الخير تجري فيه مجرى الدم من العروق فهو نافع كالمطر أينما وقع نفع. أصلح نفسه وأقامها على الشرع وذلك حسن ،غير أنه أدرك الأحسن أن عليه دور أكبر، وأنه لا يجب أن يكتفي بصلاحه فقط لا، فلما كان صادقا اتسعت دائرته شيئا فشيئا حتى أصبح أمه
إن رحلة الإصلاح هي طريقنا للنجاح والفلاح ولنسدد ونقارب ونسد الخرق الحادث في سفينة الأمه فاركب معنا ولا تكن مع الغافلين
اتسمت علاقة الدين بالاجتماع في التاريخ العربي المعاصر بطابع التوتر، جراء محاولات الاستحواذ عليه من فريقين: السلط الحاكمة وتيارات الإسلام السياسي. كان كلاهما يدرك ما للدين من قوة وسحر وتأثير على الجماهير. هذا الوضع الاستحواذي بالفعل هو وضعٌ إشكاليٌ، يفرض التعاطي السليم مع الوضع للخروج من المعركة الشرسة بأقل الخسائر، والتي تمثل مصر اليوم أبرز ساحاتها. أقدّر أن ما هو مطروح راهنا ومستقبلا هو السعي لإعادة الدين للناس، للحياة، بعد محاولات مصادرته. فلا يمكن للدين أن ينعم بوضع سليم وهو مرتهَن من قبل طرف مّا، يزعم حيازته والوصاية عليه.
ذلك أن الشعوب تختلف في تعاملها مع الشأن الديني، حيث التجارب عديدة والصياغات متنوعة لكيفية تعايش الدين مع السياسة، فليس في تسلّط أحدهما، أو في الفصل المجحف بينهما الخلاص. فالعلمانية علمانيات، و”الدين المدني” ضروب شتى، من جون جاك روسو مبدع مفهوم “الدين المدني” (1762) إلى عالم الاجتماع روبار بلاّه صاحب مؤلّف “الدين المدني في أمريكا” (1967).
والعلاقة السوية بين الدين والاجتماع، ولا سيما منها بالسياسة التي تمثل النواة الشائكة في الراهن العربي، يصنعها الناس، وليست لباسا يُستعار من مشجب الغير. والحقيقة أن الرِّيبَة من الدين اليوم، وأقصد الإسلام تحديدا، هي جرّاء تحويله، في تصورات الناس، إلى دين غير مدني، والإصرار على استهلاك تلك الصورة النمطية. فـ”القرآن كتاب مسطور لا ينطق وإنما ينطق به رجال” على حدّ قول الإمام علي؛ وبالتالي يبقى الفهم الديناميكي للإسلام وحده القادر على إخراج الإسلام من ورطته. والواقع يكشف أن الدين بشكل عام ينهض بنهوض وعي من يدينون به وينتكس بانتكاس وعيهم، لذلك يُلوّن البشرُ معتقداتهم باللون العقلي واللبوس الحضاري الذي يتلوّنون به.
كيف يمكن عقد الصلة بين المطلق والنسبي؟
ضمن ثلاثيته المهمة حول الأديان الإبراهيمية، وتحديدا في المؤلف الخاص بالإسلام “الإسلام: الماضي والحاضر والمسقبل” المنشور بالإيطالية (2005)، يلخص اللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ إشكالية الإسلام الراهن، التي على ضوئها يتحدد مستقبله، في ضرورة الخروج من تأبيد وتأزيل النمط الحضاري الديني، فلكل عصر قراءته للدين. وكل نمط في وعي الدين هو تمثّلٌ لأجلٍ مسمّى، وهو عرضة للاهتراء والتقادم. لعلّ الرجل قد أصاب كبد الحقيقة، فنحن لا زلنا نتأرجح ما بين المطلق والنسبي، بين الحنين للحظة النقاء المفعمة بعبق سحر النبوة ومستوجبات التاريخ المتحول. ولم نعِ بعدُ أن الواقعية والوفاء للحظة الراهنة هو الصواب.
هل مبادئ الدين مبادئ كلية أم تفاصيل حياتية؟
الدين هو في الآن مبادئ كلية وتفاصيل داخل التفاصيل، تسعى لاستيعاب ما هو متشظّي. ولكن هذه الترسانة من المبادئ والتفاصيل، لن تفيد بشيء ما لم يع المرء أن كافة تلك التمثلات لا معنى لها ما لم تعبّر عن حاجة فعلية للناس، وعلى هذا فالناس هم من يصنعون وعيهم بالدين. ربما ضمن هذا السياق يتنزّل قول محمد إقبال بانتهاء النبوة. فمن هذا المنطلق تصبح كافة الرؤى الفكرية في الحياة مشروعة، باعتبارها التماسا للاستخلاف الذي يتحمّل فيه الإنسان أمانته، بعد غلق باب النبوّة واكتمالها في التاريخ.
ولا أقول إن المجتمعات المركَّبة، التي بلغت مستوى من النضج الوجودي والوعي الفكري، يغدو الدين لديها مبادئ كلية، في حين في ما دونها يبقى عند مستوى التفاصيل. لأنه لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما قدرت أن تدفع بالناس نحو خيار محدد من هذين الخيارين.
لذلك الدين في البلاد العربية، أكان إسلاما أو مسيحية، هو في حاجة إلى إعادة اكتشاف ثانية، للحدّ من الابتعاد المفزع عن جوهره، كما يقول اللاهوتي بول تلّيش. ولكن معاودة تأسيس خطاب الدين في العقل والوجدان، تبقى إحدى المغامرات الشائكة والمعقَّدة، في ظلّ حملات التشويه والمصادرة والاحتكار والتنافس المحمود والمذموم من أطراف عدة. حاول بول تلّيش بعثه مجددا داخل المنظومة الثقافية، وفق ما يسمّيه لاهوت الثقافة، باعتباره السبيل المتاح لإعادة الدين إلى نقائه. وبالفعل ما نتطلع إليه اليوم في علاقتنا مع الإسلام، ومع المسيحية على حد سواء، أن نعيد التساكن بين جوهر الدين ومنطق العصر، دون تضارب أو تقابل بينهما. ولا يعني هذا سعيا براغماتيا لتجاوز حالة الفصام، ولكنه نابع لدينا من إيمان بحدوث تشوّه في الجوهر الرسالي، تشوّه مسّ دلالات النص، وتشوه مسّ الوعي بالنص أيضا. أن نتأمل في الدّين لا كما يريد السّدنة، وأن ننظر في الشرائع لا كما تنشد المؤسّسة، مهمّة في غاية المجازفة، رغم وعورة الطريق فالخلاص يلوح هناك.
الدين والحياة توجيه وإرشاد أم تخطيط وتنفيذ؟
حين يتحول الكائن المتدين إلى مجرد آلة عمياء في علاقته بالدين، أو بشكل أوسع مع كل ما يمتّ بصلة للحقل الديني، يفقد الدين مقصده التحريري. لذلك حريّ الخروج بالدين من التلقين، ومن “الكاتيكيزم” بالمفهوم الكاثوليكي، بقصد بناء علاقة حوارية متزنة مع المقدس عامة.
ليس الدين قهرا للعباد وحدّا من حريتهم، حتى يتحول الكائن المتدين إلى آلة تنفّذ ما يُملى عليها، أكان من قوى غيبية أو من سدنة موكّلين بأمر المقدّس. فبهذا الشكل ينتفي البعد التحريري والتحرري للدين ليغدو منظومة قهر وكابوسا مرهقا للمرء، وهو ما لا نذهب إليه.
في واقعنا العربي المعاصر هناك فهمٌ للدين من منظور التحريم، ولا أتصور أنه يرتقي إلى لاهوت قائم الأركان، بل هو فوبيا مرضية، منجرّة عن فهم سطحي هيمن على الرؤية الدينية، مع أن فقهاءنا قديما صاغوا قاعدة فقهية جليلة بقولهم “الأصل في الأشياء الإباحة”. وفوبيا التحريم هذه قادتنا إلى صحوة دينية مشوَّهة، تحدّدت خريطتها بما هو حلال وبنقيضه ما هو حرام. أُدخل المسلم حقلا دلاليا ورمزيا قسرا، والحال أن معركته مع اللامعقول والاستغلال والتدمير لكيان الفرد المادي والمعنوي.
هل لاهوت التحرير ثورة دين أم ثورة على الدين.. أي ثورة على الدين من الخارج أم عملية تثوير داخلية من حيث هو دين له مبادئ معينة؟
أتى لاهوت التحرير بالأساس ثورة داخل الدين، وثورة على المؤسسة الدينية، على كنيسة روما بالأساس. لم يحصل أن تنكر لاهوتيو التحرير لكنيستهم الكاثوليكية، لكن ما حصل هو التطلع لإصلاح الانحرافات التي دبت في المركز، فقد تأوربت المسيحية وترسملت، أي صارت أوروبية وغدت ذات طابع رأسمالي. وتحديدا ليس الإصلاح المراد إصلاحا دغمائيا، أو ليتورجيا، بل هو إصلاح في الخيارات. من تُوالي الكنيسةُ الفقراءَ أم الأغنياء، الجياع أم المتخمين، المستضعَفين أم المستكبِرين؟