بمناسبة الذكرى الـ 50 لانتصارات حرب أكتوبر المجيدة 1973 م نسلط الضوء على الدور الذي لعبه الفن والفنانين في المعركة، ودور الكلمة واللحن والغناء في رفع الروح المعنوية للجنود على الجبهة فى سيناء، وللشعب في الجبهة الداخلية، وشحن الهِمَمِ والتأكيد على الملحمة الوطنية للجيش والشعب.
ورغم وجود عشرات الأغاني التي صاحبت أيام النصر إلا أنى أركز هنا على أوائل الأغنيات التي أعقبت بيان النصر فور إذاعته مباشرة.
ففي يوم السادس من أكتوبر 1973 وفور إذاعة البيان العسكري رقم 1 الصادر من القيادة العامة للقوات المسلحة يوم 6 أكتوبر 1973م ، الساعة 2.15 بصوت الإذاعي حلمي البلك تم إعلان نجاح قواتنا المسلحة عبور قناة السويس.
ونتيجة لما حدث مع هزيمة 67 من إذاعة أغانى انتصار زائف، وما كان فيها من كذب وخداع للبسطاء؛ وفي محاولة لمصالحة الشعب والاعتذار له بعد فضيحة النكسة جاء بليغ والأبنودى وعبد الحليم بأغنية (عدى النهار)، لكنهم واجهوا حالة عزوف عن الاقتراب من الأغنية الوطنية، فالشعب لم يَعُد يتقبل أغانى الانتصار لفقدانه الثقة في قيادته، وما تعلنه من أخبار للجبهة، إضافة إلى عدم وجود بنود مالية لإنتاج الأغاني فكانت كل الموارد مخصصة للمعركة، لذلك وفي الساعات الأولى التي أعقبت إذاعة بيان النصر، كانت تذاع الأغانى الوطنية العامة الموجودة في أرشيف الإذاعة.
ولأن النصر له فرحة، فقد تفاعل الفنان المصري مع الحدث وأسرع في التعبير عن مشاعره بالسعادة في تحقق حلم التخلص من كابوس نكسة 67 ، ومن أهم فناني مصر الذين كان تفاعلهم مع الحدث سريع الفنان الموسيقار بليغ حمدي وزوجته حينها الفنانة وردة يصاحبهما الشاعر الغنائي عبد الرحيم منصور، واتجهوا إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون رغبة منهم في تقديم اغنية للنصر ولكن تم منعهم من دخول المبنى لدواعٍ أمنية، ولإصرار بليغ على الدخول اتصل أمن المبنى بوجدى الحكيم مسئول الإنتاج الغنائي بالإذاعة ورئيسه محمد شعبان ( بابا شارو) فنزل وجدى الحكيم لبليغ وحاول أن يهدئ من ثورته ويشرح له الوضع، فما كان من بليغ إلا انه طلب (الشرطة) لعمل محضر في صديقه وجدي الحكيم الذى منعه من التعبير عن مشاعره والوقوف مع بلده في لحظة فارقة، وتدخل بابا شارو وفض الاختلاف وسمح لهم بالدخول، وشرح لهم عدم وجود أى موارد مالية للأغانى فكتب بليغ ورقة بتنازله عن أجره هو ووردة، وأنه متكفل بأجور الفرقة الموسيقية بكل أفرادها، وجاء قائد الفرقة الموسيقية (الماسية) أحمد فؤاد حسن بالفرقة الموسيقية وقال إن الموسيقيين ليسوا أقل وطنية من الفنانين، وأنهم جميعا متبرعين بأجورهم لصالح البلد، وعملوا جميعا بلا أجور وبدأوا تسجيل أغنية “بسم الله الله اكبر بسم الله”. والطريف أنه لم يكن هناك كورال ليُغَنى الأغنية فتم تجميع الموظفين بما فيهم وجدى الحكيم نفسه، وعمال البوفيه لينشدوا جميعا مع بليغ حمدى الأغنية، وتم إذاعتها في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لتكون أول أغنية للنصر بعد ساعات من إذاعة بيانه.
وفي الساعة السابعة صباح السابع من أكتوبر كان بليغ قد انتهى هو ووردة من تسجيل أغنية “على الربابة” لتكون ثانى أغانى النصر والتي تم تأليفها وتلحينها وتسجيلها قبل مرور 24 ساعة على إعلان بيان النصر، مما كان محل تعجب من الجميع خاصة بابا شارو الذي أذهلته عبقرية بليغ حمدى وروعة وبساطة الأغنية.
في تلك الأيام كان مسئولى الإذاعة مقيمون بشكل دائم في المبنى ولا يخرجون منه. فانضم إليهم بليغ حمدي الذى كان ينام في أحد ممرات الإذاعة (طرقة) بين الغرف وكذلك وردة وعبد الرحيم منصور مؤلف بسم الله و”على الربابة” و “عبرنا الهزيمة”.
وفى فجر يوم 9 أكتوبر كان توفيق الحكيم كتب مقالة بالأهرام عنوانها “عبرنا الهزيمة” فألهم العنوان عبد الرحيم منصور ليكتب أغنية “عبرنا الهزيمة يا مصر يا عظيمة” ولحنها بليغ حمدى وتحفظها شادية ويتم تسجيلها وإذاعتها فى الثامنة صباحا، وجاء ذلك بعد أن ذهب كل من بليغ وعبد الرحيم إلى جريدة الأهرام لاستئذان توفيق الحكيم في استخدام عنوان مقاله، فسمح لهما بذلك.
ومنذ اليوم الثانى للانتصار كان أغلب فناني مصر يتدفقون على المبنى لتسجيل أغانى النصر مشاركة منهم في التعبير عن فرحة الشعب كافة سواء على الجبهة الداخلية أو على جبهة القتال، وكان أشهر تلك الأغانى أغنية شهرزاد “سمينا وعدينا” وأغاني عبد الحليم “صباح الخير يا سينا” “و عاش اللى قال” ,”لفى البلاد يا صبية” وسعاد حسنى “دولا مين” ، وشادية ” رايحة فين ياعروسة يا أم توب أخضر” و”يا أم الصابرين” وغيره، وكان لتلك الأغانى عظيم الأثر فى نفوس الجنود على الجبهة، ويحكى وجدي الحكيم أنه كان له أخ مشارك في القتال على الجبهة (اللواء سيف الحكيم) اتصل به وقال له إن تلك الأغانى ألهبت مشاعر الجنود على الجبهة درجة قد تعرضهم للخطر، إذ كان أحد الأبطال المقاتلين قد قصف دبابة للعدو ومن شدة فرحته فتح غطاء دبابته وأخرج رأسه منها ليرقص ويغنى جملة (وأنا على الربابة بَغَّنِي).
ولتوثيق هذه المرحلة ورصد الأغاني الوطنية التي واكبت أيام الانتصار واستعادة الأرض والعزة والكرامة، وبالاستناد إلى المراجع الغنائية ومقالات بعض الصحف ومؤرخي السيرة الغنائية لتلك المرحلة، فإن أغاني أكتوبر هي سيل متدفق مثل طلقات البنادق، وقذائف الطائرات، والمدافع والطائرات فوق رؤوس العدو، حتى بلغت طوال أيام المعركة فكان هناك ما يقرب من 80 أغنية خلدتها حرب أكتوبر لفنانين مصريين وعرب.
ومن أهم ما نخرج به هنا أن في الوقت الذي كانت تدور فيه معركة على جبهة القتال وفى يد كل مقاتل مدفع، كان في الداخل معركة فنية سَطَّرت تخليدا لأهم وأعظم انتصار في تاريخ العرب الحديث.
كما أظهرت كتائب الفنانين المعتكفين في مبنى الإذاعة والتليفزيون تكاتف ونبذ خلافات وصلت ذروتها بين العديد منهم (فهذه فايزة أحمد تُذَّكِر عبد الحليم حافظ بمواعيد الأدوية، وعبد الحليم بنفسه يُثَّبت الميكرفون لتغنى فايزة ونجاة، فالجميع تناسى التنافس والصراع الفني، واصطفوا معا لتنفيذ مهمة تسجيل وتوثيق لحظة فارقة في عمر الوطن.