يستحق شعر الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الحرث) – في تقديري – عناية كبيرة ودراسة تحليلية أكثر عمقا، وخاصة من الناحيتين الأسلوبية والجمالية معا، لا دراسة موضوعاتية فحسب، كما جرت العادة لدى الدارسين لجل شعرنا العربي القديم. وليس الأمر وقفا على الخنساء، بل إنه مهم جدا لكل الشعر العربي، قديمه وجديده على السواء.
ولعل ما يميز شعر الخنساء، وكما أفاض في ذلك غير نفر من الدارسين، غلبة طابع الرثاء عليه، متمثلا في رثاء أخيها صخر، لكن بالنظر مليا إلى إبداعها الشعري، يلحظ المرء غلبة طابع الفخر بمآثر وأخلاق وسجايا وشجاعة أخيها صخر، وكذلك الفخر بقومها، أيضا. إنه رثاء مبطن بالمدح والفخر، أو فخر ومدح مبطن بالرثاء، ولعل جمالية التلقي لهذا الشعر تكمن في هذا المزج الرائع بين الاثنين بحيث لا يستطيع المتلقي فصل أحدهما عن الآخر، بل إن المعنى لا يكتمل إلا بامتزاجهما معا.
كما أن جمالية التلقي نابعة من براعة الشاعرة في اختيار وانتقاء الألفاظ والجمل والصور والأخيلة، وبالجملة الأسلوب بأكمله، الذي يشير إلى صاحبته، بما أن الأسلوب هو الكاتب، على حد قول الدارسين. فكل معاني الجمال والكمال حاضرة بجدارة في إبداعها الشعري الخلاق .
من هنا، فإنه إذا نظرنا إلى قولها:
المجد حلته والجود علته والصدق حوزته إن قِرٰنه هابا خطُاب محفلة فراج مظلمة إن هاب معضلة سنُى لها بابا
حمال ألوية قطاع أودية شهاد أنجية الوتر طلابا
سم العدالة وفكاك العناة إذا لاقى الوغى لم يكن للموت هيابا
يمكننا القول إن الشاعرة قد استوفت جوانب وسمات، أو شرائط المدح والفخر ، إذا جاز القول، في رثاء أخيها صخر، بحيث جعلته نموذجا متكاملا، ومثالا يحتذى للفتيان والفتيات.
إن كل وصف من هذه الأوصاف يتكون من مسند ومسند إليه، وصفة ملازمة للموصوف، جاءت كلها متضافرة لتجعل من هذا الفتى إماما وقدوة للآخرين، فهو لا يعرف إلا طريق المجد والجود والصدق، ولعل ورود هذه الأوصاف بصيغة التعريف (ال) دلالة على ملازمتها إياه، كما أن الأوصاف الخبرية: حلته، علته، حوزته، فتوكد اكتمال هذه الأوصاف وملازمتها إياه، وملازمته لها أبدا.
فالمجد حلته= لا يرتدي إلا ثياب المجد الأنيقة (الرفعة والسمو).
والجود علته= العلة المصاحبة له، لا تفارقه إلا بالموت، والجود حياة وموت بالنسبة إليه، في الوقت نفسه، فلا يحيا إلا به، ولا يفارقه إلا بالموت. إن هذا العلة (الجود) ستكون سبب موته، فهي الداء الذي لا برء منه، وياله من داء يتلذذ به أمثال صخر.
أما قولها: الصدق حوزته، فيشير إلى أنه لا يحوز ولا يملك إلا الصدق في القول والعمل، وهو خير ما يمتلكه المرء، وتلك أية في الجمال والإبداع.
وتأمل معي توظيفها صيغ المبالغة، التي تضافرت جميعها مع مضافها، في إبراز بطولات صخر وسجاياه العظيمة، فغدا أنموذجا إنسانيا فريدا، جمالا وشجاعة وإقداما، لا تقف في وجهه صعاب أو عقبات، فهو:
خطُاب – فرُاج – حمُال – قطُاع – شهُاد – فكُاك – غير هيُاب.
خطاب محفلة = لديه من البلاغة والحجة ما يقنع به حاضري المحافل (المجالس). إنه خطيب مفوه، لا نظير له.
قطاع أودية= لا يتصدى إلا للصعاب بكل شجاعة وإقدام، كثير التصدي للأخطار وتحمل المصاعب أينما تكن وحيثما تكون.
شهاد أنجية= كثير حضور المجالس، متحدثا بليغا، حاضرا لا يغيب.
فكاك العناة = كثير فك الأسرى ومنحهم الحرية.
سُمُُ العدالة = يتصدى للأعداء بشجاعة وبأس شديد..إنه كالسم الذي يقضي عليهم قضاء مبرما، حينما يتجرعونه.
وكل هذه الأوصاف تأتي تتمة وتكملة لأول الأبيات في القصيدة التي بدئت بالرثاء وهنا تتجلى الوحدة العضوية التي عمادها وأهم أركانها الصور والأخيلة والتراكيب، جملا وألفاظا، والتي تضافرت جميعها في إبراز هذه الجوانب المشهدية البصرية الرائقة.