ان التجويع، كسلوك وفعل قصدي، يترافق عادةً مع الحصار العسكري التي تفرضه قوات محاربة، على منطقة محددة أو مدينة أو جزء من مدينة، سواء أكنا أمام نزاع دولي أم نزاع غير دولي، وهذا ما يميزه عن مجرد الحصار الاقتصادي، الذي قد يكون له الهدف العسكري نفسه، ولكنه يختلف عنه من حيث الوسائل.
يحظر القانون الإنساني الدولي الحديث تجويعَ المدنيين -أي حرمانهم من الطعام عمدًا- بوصفه أحدَ أساليب الحرب، كما في المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف عام 1977، وكذلك البروتوكول الإضافي الثاني الصادر في السنة ذاتها الذي تحمي مادته 13 المدنيين، حمايةً عامةً من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية، بحيث لا يكونون محلًا للهجوم وأعمال العنف، كما يحميهم من استخدام التجويع كأسلوب من أساليب القتال،
ولا يختلف الأمر في التجويع المباشر أو العَرَضي، فحظر التجويع ينصرف إلى فرض الحصار على المناطق التي يوجد فيها المدنيون، ومنع الغذاء عنهم، كما ينصرف إلى تدمير الأعيان المدنية، كمرافق مياه الشرب بهدف حرمان السكان من المياه مثلًا، فيغدو مفهومُ التجويع غيرَ مقتصر على معناه الضيق، أي حرمان السكان من الغذاء، وإنما يشمل كذلك المعنى الواسعَ الذي يتضمن حرمانَ السكان أو عدم تزويدهم بالحاجات الضرورية للعيش
كما ينصرف أيضًا إلى حظر مهاجمة وتدمير المناطق الزراعية التي تنتج المواد الغذائية والمحاصيل والماشية وشبكات الري، وذلك لغرض محدد هو تجريدها من قيمتها باعتبارها من مقومات حياة السكان المدنيين أو الطرف الخصم، مهما كان الباعث، وهذا ما نصت عليه المادة 8/2/ب/25 من نظام روما الأساسي، التي أكدت أن تعمّد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم -ومن ضمن ذلك الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف- إنما يشكل جريمة حرب، وكانت المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة قد أوجبت على الأطراف المتعاقدة، كفالة مرور شحنات الأغذية الضرورية المرسلة إلى السكان المدنيين، وإن كانوا من الخصم.
وإذا كان التجويعُ محظورًا في القانون الدولي، كما بيّنا، سواء أكان أصليًا أم عرضيًا؛ فإن الحظرَ يبقى قائمًا بغض النظر عن الهدف منه لدى الجهة الفاعلة، فقد يكون التجويع بقصد إهلاك المدنيين أو بقصد تهجير السكان قسرًا عبر تجويعهم، وفي الحالتين يُعد جريمة حرب، وفق ما ذهب إليه نظام روما الأساسي الذي يعزز ما جاء في اتفاقيات جنيف، وخاصة المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول، وفق ما ذكرناه.
حذر قسم الطوارئ فى برنامج الأغذية العالمى من ارتفاع أعداد الأشخاص والأطفال والنساء الذين سيواجهون خطر الجوع الحاد فى قطاع غزة. وقد مرت أربعة أعوام على اتخاذ مجلس الأمن القرار التاريخى رقم 2417 الصادر بتاريخ 24 مايو 2018ــ قبل حرب غزة الحالية ــ وهو الذى أدان بشدة: (استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال فى عدد من حالات النزاع وهو أمر محظور بموجب القانون الدولى الإنساني؛ كما أدان مجلس الأمن بشدة المنع غير القانونى من إيصال المساعدات الإنسانية وحرمان المدنيين من المواد التى لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة).
يُعدّ الغذاء حقًا طبيعيًا للبشر لكونه ضرورةً لاستمرار الحياة الإنسانية، ويؤثر نقص الغذاء تأثيرًا سلبيًا في حياة الناس وإرادتهم. ونتيجة لتلك الأهمية، كانت السلطات تتحكّم دائمًا في حاجة الناس الطبيعية إلى الغذاء، وتستغلّها في النزاعات والحروب، من أجل التأثير في إرادة الخصوم، باستخدام التجويع سلاحًا، لتحقيق أهداف معيّنة، منها الإخضاع والتهجير، وقد يصل الأمر إلى إبادة الأفراد أو الجماعات، ولعل عبارة “إما نموت أو نرحل” التي قالها رجلٌ من المدنيين المحاصرين في مدينة داريّا السورية، وقد وردت في تقرير لمنظمة العفو الدولية (أمنستي)،
تلخّص وضع المدنيين السوريين، في المناطق التي تعرضت للحصار على يد الجيش السوري والميليشيات الداعمة له، فالموت هنا ليس بسبب القصف الجوي والمدفعي المتواصل على المدن والأحياء المحاصَرة فحسب، بل بسبب الجوع ونقص الغذاء بشكل أساسي، بفعل الحصار ومنع إدخال المواد الغذائية. وقد كان ذلك الحصار الذي مارسته أجهزة سلطة الاستبداد مرحلةً من مراحل العنف الذي لف حياة السوريين منذ ربيع عام 2011، وكان أحدَ أساليب قهر المعارضة وحاضنتها الشعبية، بهدف القضاء عليها بالموت قصفًا أو جوعًا، أو الرحيل بعيدًا إلى الشمال.
وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ــ الشهر الماضى ــ قرارا بأغلبية 120 عضوا يدعو إلى هدنه إنسانية دائمة فى غزه تفضى إلى وقف الأعمال العدائية، وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين.
وقد أجمعت التقارير والوثائق المحلية والدولية والصحفية ــ بالصوت والصورة ــ على أن قطاع غزة يعانى تعمد الكيان الصهيونى تجويع سكان قطاع غزة، واستخدام سلاح التجويع كسلاح لقهر إرادة المقاومة الفلسطينية للاحتلال، على الرغم من أن جريمة التجويع تشكل إحدى صور جريمة الإبادة الجماعية التى جرمها القانون الدولى الإنسانى واتفاقيات جنيف والنظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.
وتعتبر جريمة الإبادة الجماعية (The crime of genocide) إحدى الجرائم الموجهة ضد الجنس البشري، بل يمكننا وصفها بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها جريمة الجرائم الدولية.
ــ وقد حددت المادة السادسة من نظام روما الأساسى بشأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 جرائم الإبادة الجماعية، كما عرفتها إتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع جريمة الإباده الجماعية والمعاقبة عليها فى المادة الثانية حيث تضمنت أنه: يُراد بجريمة الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التى ترتكب بقصد التدمير الكلى أو الجزئى لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه وذلك بقصد قتل أعضاء من الجماعة أو إلحاق أذى جسدى أو روحى خطير بأعضاء من الجماعة أو إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادى كلياً أو جزئياً أو فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة أو نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وسوف نتناول فيما يلى صورتين من صور التجويع وإلحاق الأذى البدني، وهما من صور جرائم الإبادة الجماعية والتى تحدث ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة منذ ما يزيد على شهر ــ ومازالت تحدث ــ وذلك على النحو التالى:
ــ الصورة الأولى: جرائم الإبادة الجماعية عن طريق التجويع وذلك بفرض أحوال معيشية بقصد التسبب عمداً فى الإهلاك المادى للإنسان:وتقوم هذه الجريمة بأن يفرض الجانى أحوالاً معيشية معينة على شخص أو أكثر، وأن ينتمى المجنى عليهم إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة وأن يقصد الجانى إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية، كليا أو جزئيا، بصفتها سالفة الذكر ، وأن يكون سلوك الجانى متكرراً وواضحاً وموجهاً عمداً ضد تلك الجماعة وأن يكون ذلك السلوك قابلاً لأن يُحدث تلك النتيجة وهى إهلاك المجنى عليهم وذلك بفرضه عمداً تلك الأحوال المعيشية المؤدية إلى هلاكهم من الحياة.
- الصورة الثانية: جرائم الإبادة الجماعية بإلحاق أذى بدنى أو معنوى جسيم بالمجنى عليهم : وتقوم جريمة الإبادة الجماعية بالأذى بأن يسفر فعل الجانى عن إلحاق أذى بدنى أو معنوى جسيم بشخص أو أكثر. ويدخل فى هذه الأفعال على سبيل المثال : أفعال التعذيب أو الاغتصاب أو العنف الجنسى أو المعاملة اللاإنسانية أو المهينة للمجنى عليهم، وهى صور متكررة تقع ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، ويجب أن ينتمى المجنى عليهم إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة، وأن يقصد الجاني إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية، كليا أو جزئيا، بصفتها سالفة الذكر ، وأن يكون سلوك الجاني متكرراً وواضحاً وموجهاً ضد تلك الجماعة وأن يكون ذلك السلوك قابلاً لأن يحدث تلك النتيجة وهى إهلاك المجنى عليهم، وهذا أمر ثابت فى سلوك الكيان الصهيونى فى الصورتين السابقتين من صور التجويع والإيذاء .
لم يكن سكان غزة أول من تعرض للحصار والتجويع عمدًا، ففي وقائع التاريخ القديم والمعاصر أمثلةٌ كثيرة، لكن الاختلاف ينحصر في الطرف الذي يفرض الحصار، فبينما كانت الشعوب تتعرض للحصار والتجويع من جهة قوة أجنبية معادية، وهذا قد يكون مفهومًا، على عدم أخلاقيته، نجد أن الإرادة التي منعت الغذاءَ ووسائل البقاء على قيد الحياة، عن المدنيين السوريين، كانت إرادة سورية بأيدٍ سورية، وهنا يكون الجور والقهر أكثرَ فظاعةً وأعمقَ أثرًا.
فما هو التجويع؟ وما أبرز الأمثلة عليه من التاريخ المعاصر؟ وكيف استخدمت سلطة الاستبداد الحصار والتجويع سلاحًا على المدنيين السوريين؟ وما أهدافه ووسائله؟ وما النتائج التي نجمت عنه؟ وما موقف القانون الدولي من استخدام التجويع كسلاح في الحروب، – عودة المهجرين قسرًا إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها تحت حجة اتفاقات الصلح الجارية تحت الحصار والتجويع.
خلاصة القول: إن ما سبق بيانه هو بعض صور جرائم التجويع وهى صور جسيمة من جرائم الإبادة الجماعية التي شاهدناها ونشاهدها فى قطاع غزة – منذ ما يزيد على شهر – ويتبين منها أن الكيان الصهيوني قد ارتكب جرائم التجويع والإيذاء وغيرها ضد الشعب الفلسطيني الأعزل وهى جرائم حرب وعقاب جماعى طبقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وطبقاً لاتفاقيات جنيف الأربع وقانون المحكمة الجنائية الدولية وذلك لعلم الجناة يقينا بجرائم التجويع وسوابقهم الجنائية المتعددة في هذا الشأن والتي شهد بها القاصى والداني.