كأنها كانت بالأمس، تلك المفاجأة التى أعلنها الأستاذ سمير رجب، رئيس مجلس إدارة مؤسسستنا “دار التحرير للطبع والنشر” فى اجتماع مجلس التحرير ذات صباح فى صيف 1992: ما رأيكم فى أن نصدر جريدة دينية، نقف بها مع الدولة فى الحرب على الإرهاب والأفكار المتطرفة والتيارات الهدامة، وننشر فيها الفكر الوسطى المعتدل لمواجهة الفتنة الطائفية، ونسميها “عقيدتى”، ونكون أول مؤسسة صحفية قومية تصدر صحيفة دينية متخصصة.
قوبلت الفكرة بالترحيب من الأغلبية، بينما تحفظ قليلون، وأنا منهم، كنت فى ذلك الوقت نائبا لرئيس تحريرصحيفة ” المساء “، لكن كان واضحا أن الأستاذ سمير رجب قد حزم أمره، وأنه أراد فقط أن يبلغنا بما عزم عليه وقرره، وبسرعة استدعى مدير مكتبه، وطلب منه أن يأتيه بورق أبيض ليكتب عليه رسالة رسمية، لأننا فى الصحافة نستخدم فى كتاباتنا الداخلية الورق “الدشت” الأصفر، وبالسرعة نفسها كتب الرسالة فى سطرين أو ثلاثة، يطلب فيها من رئيس المجلس الأعلى للصحافة آنذاك، الدكتور مصطفى كمال حلمى، رئيس مجلس الشورى، الموافقة على إصدار الجريدة “عقيدتى”، ثم أعطى الرسالة لمدير مكتبه كى يرسلها بالفاكس، وبعد دقائق معدودة جاء الرد بالموافقة على الفاكس أيضا.
وخلال هذه الدقائق المعدودة، التى استغرقها الفاكس ذهابا وإيابا، كان الأستاذ سمير رجب قد كتب قرارا بتشكيل اللجنة التى ستقوم على دراسة إصدار”عقيدتى” من كافة الجوانب؛ التحرير والطباعة والتسويق والإعلان، وشرفنى ـ شخصيا ـ بأن أسند إلي كل ما يتعلق بأمور ومهام التحرير، من حيث شكل الصحيفة وعدد صفحاتها وأبوابها وكتابها وطاقم المحررين الذين سيعملون بها، وذلك على الرغم من أننى ـ كما قلت ـ كنت أحد المتحفظين القلائل، وكنت مرتبطا بتعاقد للسفر فى برنامج تدريبى بأمريكا أعدته نقابة الصحفيين، وبتعاقد آخر للعمل فى السعودية.
تسارعت الخطى لإصدار “عقيدتى” قبل السفر، حيث أعددنا الدراسات والترتيبات اللازمة، واستقدمنا الصحفيين الشبان، وأنجزنا التبويب، وماكيتات الصفحات، وحددنا يوم الصدور، وأعددنا نماذج للموضوعات التى ستنطلق بها الجريدة، وفى تلك الأثناء جاءنى إشعار السفر إلى أمريكا، فرفض الأستاذ رئيس مجلس الإدارة رفضا قاطعا، وبتوفيق الله استطعت التحلل من السفر، لكن قبيل إصدار العدد الأول جاء إشعار السفر إلى السعودية حسب العقد الذى وقعته سابقا، فلم أستطع التحلل منه، وبعد إلحاح شديد وافق الأستاذ سمير رجب على السفر، وتولى مسئولية “عقيدتى” الأستاذ السيد عبد الرءوف نائب رئيس تحرير الجمهورية فى ذلك الوقت ـ رحمه الله ـ وسار بها سيرا حميدا، ثم جاء من بعده الزملاء الأفاضل الأساتذة : مجدى سالم ومجاهد خلف وجلاء جاب الله، حتى وصلنا إلى الزميل العزيز الأستاذ محمد الأبنودى، رئيس التحرير الحالى، وهو أول ابن من أبناء “عقيدتى” يتولى المسئولية الأولى فيها.
وانطلقت الصحيفة الفدائية من أول يوم لها إلى الآن قوية متزنة ملتزمة، واعية لدورها، تؤدى رسالتها بأمانة وصدق، فى ضوء تعاليم الدين الحنيف، وعلى هدى القرآن الكريم والسنة النبوية، معبرة باحترام وافر عن الوسطية المصرية التى تمثلها المؤسسة الدينية الرسمية، وعن الهوية المصرية الإسلامية، ملتزمة بالدستور والقانون، تحارب جماعات التطرف والتشدد والإرهاب، وتقف بكل قوة فى وجه أصحاب الأفكار الشاذة، الذين يعبثون بثوابت المجتمع المصرى، ويشوهون تاريخ أمتنا وعلمائها وأبطالها، ويروجون للفتن التى تستهدف وحدتنا الوطنية، كاشفة أباطيل المستشرقين الضالين ومن سار على دربهم، تسدد وتقارب بين أصحاب المذاهب المختلفة، وتنبذ الفرقة والاستقطاب، وتساند كل دعوة للتجديد والإصلاح، وترفض التبعية للشرق أوالغرب، كى تظل مصر فى مكانتها اللائقة بها، زعيمة رائدة لأمتها العربية والإسلامية.
ويوما بعد يوم حفرت “عقيدتى” اسمها على جدار الوطن على مدى سنوات عمرها الـذى بلغ الآن 31 عاما، وصارت معروفة فى الداخل والخارج بما تتمتع به من مصداقية عالية، وبما تحمل من رسالة دينية ووطنية وإنسانية وحضارية عظيمة، يصعب على أى جريدة أخرى أن تقوم بها، أو حتى تتمثلها، خاصة فيما يتعلق بالموضوعات والقضايا التى تتناولها، والثقة التى حازت عليها لدى مؤسسات الدولة، والمجتمع العلمى الذى تتعامل معه، من علماء الأزهر الشريف والكتاب والمفكرين الملتزمين، وقبل هؤلاء وبعدهم جمهمور القراء الذين يكتبون لها كل ثلاثاء شهادة نجاح جديدة.
تابعتها عن كثب خلال مراحلها المختلفة، باعتبارى من جنودها الأولين، وفرحت بنجاحاتها، وأشدت كثيرا بالدور الذى تضطلع به، وشاركت بالكتابة فيها كلما تيسر لى الأمر على فترات متقطعة، وها أنذا الآن وقد تحللت من المناصب ومواقع المسئولية وتفرغت للكتابة، أحمد الله أن آوانى فى أحضانها منذ عام 2015، واحدا من كتابها بكل فخر، وقلما من أقلامها وحاملى رسالتها بكل اعتزاز وتقدير.
وفى هذا المقام أتذكر موقفا للكاتب والمؤرخ الكبير الأستاذ جمال بدوى ـ رحمه الله ـ مشابها لموقفى الآن، فقد طلبنى ذات مساء بعد أن تولى رئاسة تحرير “صوت الأزهر” عام 1999، كى أكتب عمودا فى صحيفته الوليدة، وفى ثنايا حديثنا عن الصعوبات التى تواجهه فيها فاجأنى بكلمة لا أنساها، إذ قال: ” يكفينى شرفا أن الله أكرمنى بأن أتاح لى أن أختم حياتى الصحفية بالدفاع عن دينه من خلال هذه الصحيفة، إنهاعلامة رضا من ربى”، وأنا أقول مثلما قال: إنها علامة رضا من ربى أن أختم حياتى الصحفية مدافعا عن دينه ضمن كتيبة “عقيدتى”.
لقد كنت أتصور، حين تحفظت عليها فى البداية، أن مساحة الحرية المتاحة فى 1992، لا تسع جريدة لها دور ورسالة “عقيدتى”، واليوم أقر بأن مساحة الحرية فى “عقيدتى” تحسدنا عليها صحف أخرى كثيرة.