لم يكن إقليم الشرق الأوسط من الأقاليم المستقرة في العالم، وعلى العكس فإن أشكالًا مختلفة من الحرب الباردة تشكلت من خلافات وصراعات معسكرات وتحالفات كانت أثناء الستينيات من القرن الماضى تُعرف بالحرب الباردة العربية لأنها كانت انعكاسًا للحرب الباردة العالمية. في أوقات أخرى، وبعد درجة من التضامن أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣، فإن المنطقة انقسمت بين الذين ساروا في طريق السلام مع إسرائيل، وهؤلاء الذين عارضوه. كان الانقسام حادًّا، فلم يكن في معسكر السلام أولًا سوى مصر، ومن ثَمَّ جرى عزلها وخروجها من جامعة الدول العربية وخروج جامعة الدول العربية من القاهرة؛ ولكن سرعان ما أظهرت القمة العربية في فاس أولى إشارات السلام مع إسرائيل، وهى الدعوة التي صارت فيما بعد «مبادرة السلام العربية» في قمة بيروت ٢٠٠٢. وثانيًا بعد نهاية الحرب الباردة وحرب تحرير الكويت، فُتح الباب أمام انعقاد مؤتمر مدريد، الذي فتح الباب أمام معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية واتفاق أوسلو الفلسطينى الإسرائيلى، فاتسع نطاق معسكر السلام، وباتت القضية الفلسطينية موضوع «عملية سلام» متقطعة.
وفى أوقات ثالثة، وبعد أن قامت الثورة «الإسلامية» الإيرانية، وثورات «الربيع العربى»، انقسمت المنطقة بين معسكر القوى الأصولية الإسلامية، التي تزعمتها إيران وانضم إليها توابعها، من الحشد الشعبى في العراق وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والحرس الثورى الإيرانى في سوريا؛ وبين جماعة الإخوان المسلمين في كل مكان آخر. وفى الناحية الأخرى كان معسكر الإصلاحيين العرب التواقين للاستقرار الإقليمى سرعان ما توجهوا للسلام مع إسرائيل من خلال ما عُرف بالسلام «الإبراهيمى». آخر الحلقات التي كانت تسير في هذا الاتجاه كان سعى الولايات المتحدة إلى جذب المملكة العربية السعودية إلى الدخول في معسكر السلام مع إسرائيل، في مقابل اتفاق أمنى مع الولايات المتحدة تضمن فيه الأخيرة أمن الأولى مثلما هو الحال في التحالفات الراسخة للولايات المتحدة في حلف الأطلنطى ومعاهدات دفاعية مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. ويُضاف إلى ذلك، وتحت إشراف الولايات المتحدة، أن تقوم السعودية بتنمية قدراتها النووية «السلمية».
هذه الخطوة شكلت في نظر المعسكر «الثورى» «الإسلامى» نوعًا من الانقلاب في التوازنات الإقليمية والاستراتيجية، التي جاء هجوم حماس على إسرائيل في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ لكى يسعى إلى إحباطه من ناحية، واستعادة «القضية الفلسطينية» أهميتها المفقودة خلال العقدين الماضيين. حرب غزة الخامسة أعادت القضية إلى مقدمة جدول الأعمال الإقليمى والدولى، بعد أن فقدت إسرائيل هيبتها من ناحية؛ وفقد الشعب الفلسطينى السيطرة على قطاع غزة، مع المزيد من الاستيطان الإسرائيلى في الضفة الغربية من ناحية أخرى. أصبح الفلسطينيون على شفا «نكبة» أخرى تسعى للتهجير القسرى للفلسطينيين من غزة في اتجاه مصر، والفلسطينيين في الضفة الغربية في اتجاه الأردن. وهكذا عادت القضية الفلسطينية لكى تشغل المجال السياسى والاستراتيجى، وتسير في ثلاثة اتجاهات: أولها استمرار الحرب بين إسرائيل وحماس، مع صمود الأخيرة مع الشعب الفلسطينى، بحيث تأخذ الحرب شكل الحروب غير المتكافئة، التي جرت من قبل في أفغانستان والعراق؛ ومن ثَمَّ فإن موضوع عام ٢٠٢٤ سوف يكون منع التهجير القسرى، والسعى نحو وقف إطلاق النار أو عقد «هدن» تعطى الفرصة لمساندة المقيمين في القطاع. وثانيها أن الحرب سوف تتوقف بفعل تدخل القوى العظمى- الولايات المتحدة وأوروبا والصين- لإجبار إسرائيل على الانسحاب، ودفعها إلى مائدة المفاوضات للتوصل إلى حل سلمى على أساس حل الدولتين. وثالثها أن تتحول الحرب الإسرائيلية الفلسطينية إلى حرب إقليمية بفعل التدخل من قِبَل توابع إيران في المنطقة. وبالفعل فإنه أثناء الحرب تدخل حزب الله في الحرب من خلال هجمات متقطعة على شمال إسرائيل أدت إلى نزوح سكان القرى والمدن الإسرائيلية في شمال إسرائيل إلى المنطقة الوسطى؛ وكذلك جماعة الحوثيين اليمنية، التي أطلقت صواريخ في اتجاه إسرائيل، وبعد ذلك وجهتها إلى أسر سفن «إسرائيلية» أو لها علاقات تجارية مع إسرائيل أو التحرش بقطع بحرية حربية بريطانية وأمريكية تمر بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب؛ وكل ذلك، بينما قامت قوات الحشد الشعبى في العراق بتوجيه الهجمات إلى القواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
أيًّا ما كان السيناريو الأكثر ترجيحًا، فإن الضرر سوف يكون بالغًا بقوى الإصلاح، التي تشمل دول مجلس التعاون الخليجى الست ومصر والأردن والمغرب نتيجة التوترات الإقليمية والدولية، التي لن تفيق بعد من عواقب الحرب الروسية الأوكرانية. عودة القضية الفلسطينية بتعقيداتها الجديدة مرة أخرى إلى سماء الشرق الأوسط، في ظل حرب غزة الخامسة، سوف تكون إيذانًا بعودة الاضطراب مرة أخرى إلى أوصال المنطقة؛ كما سوف تفتح الأبواب لوضع معاهدتى السلام بين إسرائيل ومصر والأردن، في ظل أخطار كثيرة، بعد عقود عديدة من السلام والعلاقات الحميدة، التي شملت اتفاقيات تتعلق بالطاقة والمياه والمناطق الصناعية المؤهلة. الإصرار الإسرائيلى على دفع الفلسطينيين في قطاع غزة في اتجاه الحدود المصرية يشكل نذير امتهان لمعاهدة السلام، التي تمنع أيًّا من طرفى المعاهدة من اتخاذ إجراءات عدائية إزاء الطرف الآخر. وطبقًا لمقال «روبرت بيب» بعنوان «فشل الحملة الجوية الإسرائيلية في غزة» بتاريخ ٦ ديسمبر ٢٠٢٣ في دورية «الشؤون الخارجية» الأمريكية، فإن وزارة المخابرات الإسرائيلية قدمت «ورقة مفهومية» أو Concept Paper للقيادة الإسرائيلية قوامها الدفع بسكان غزة من شمالها إلى جنوبها ومن الجنوب إلى مصر.
هذا هو التحدى الجديد، الذي يطلب من مصر مواجهة أزمة أخرى تأخذ في الاعتبار محددات: أولها أن مصر تمر بنقطة المنتصف تقريبًا في تطبيقها رؤية مصر ٢٠٣٠. وثانيها أن مصر تنتقل إلى فترة رئاسية جديدة والتى أتمتى أن يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسى؛ ولو أنه حقق الكثير خلال ولايته السابقة بما يُدخله التاريخ المصرى، فإن الولاية الثانية سوف تشير إلى ما هو تحديات أكثر لمصر. وثالثها أن تجربة السنوات السابقة من التاريخ المصرى (٢٠١٣- ٢٠٢٣) تجعل مصر أشد نضجًا واستعدادًا لأنها الآن تسلم بأن الزمن لا يخلو من مفاجآت الداخل (الربيع العربى وحكم الإخوان والإرهاب) والإقليم (الأزمات المتوالية في السودان وليبيا وفلسطين مؤخرًا) والعالم (الحرب الأوكرانية، وباء الكورونا). ورابعها أن تجربة السنوات السابقة تفرز دروسًا كثيرة في الداخل المصرى من الإنجازات التي تحققت، ومن نوبات القصور عن استغلال ذلك في تلافى أزمات اقتصادية تُعرِّض المشروع الوطنى المصرى للأذى.
الفكرة الاستراتيجية الأساسية للتعامل مع هذا الموقف تقوم على أنه في الوقت الذي تسعى فيه مصر لاستمرار عملية البناء الداخلية وتحقيق الإصلاح الاقتصادى والإدارى لتجاوز الأزمة الراهنة بإجراءات أشد جرأة؛ فإنها سوف تسعى إلى تعزيز مكانتها الإقليمية في معالجة الأزمة الناجمة عن حرب غزة الخامسة بالبناء على ما قامت به حتى الآن انطلاقًا من أن «السلام» هو السمة الأساسية والاستراتيجية للسياسة المصرية، وجوهره تحقيق حل الدولتين في القضية الفلسطينية.