عاش قرنًا من الزمان .. وأمضى 6 عقود في دهاليز السياسة
ثقة مفرطة بالنفس وشعور بعدم الأمان.. قارئ نهم لكنه أسير أفكار محددة.. يلتزم بالسلام ويؤمن بالعنف !!
سفك دماء مواطني الدول الأجنبية ضروري .. إذا كانت مصداقية بلاده على المحك
رفع مستوى التأهب للقوات النووية الأمريكية.. في حرب السادس من أكتوبر..!!
دوره مباشر في مذابح الخمير الحمر..وإلقاء 15 ألف طن من القنابل على فيتنام!!
تدخلاته في جنوب أفريقيا فاشلة.. لم ينه الاستعمار ولا حكم الأقلية!!
تقرير يكتبه
عبد المنعم السلموني
توفي هنري كيسنجر مؤخرًا .. وذلك بعد بضعة أشهر من عيد ميلاده المائة. وبالطبع فإن كلمات التأبين لرجل الدولة وثعلب الدبلوماسية الأمريكي الشهير تصور قرنًا من حياته كعصر بدءًا من فراره كلاجئ يهودي ألماني شاب، خلال الحرب الباردة التي وضع عليها بصمته الجيوسياسية المميزة، باعتباره اليد اليمنى للرئيس السابق ريتشارد نيكسون ووصولًا إلى عالم جديد يتميز بصعود الصين والآثار المذهلة للتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي.
أمضى كيسنجر ستة عقود وزيرًا للخارجية الأمريكي، تمكن خلالها ببراعة من الإقناع والخداع في صياغة العلاقات الدولية. إنه المسؤول الأمريكي الوحيد الذي تولى جميع أدوات صنع السياسة الخارجية بواشنطن–عمل لمدة عامين في نفس الوقت كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية –ليس له نظير في تاريخ العلاقات الخارجية الأمريكية.
ويرى تيموثي نفتالي في مقال بموقع فورين أفيرز، أن كيسنجر كان رجل التناقضات. كان موهوبًا بذكاء فولاذي وثقة مفرطة بالنفس، ومع ذلك كان عاطفيًا، وأحيانًا كان يشعر بعدم الأمان. ورغم نهمه للقراءة فقد كان أسيرًا لأفكار محددة. كان ملتزمًا بالسلام وطليقًا في لغة الدبلوماسية، لكنه كان مجازفًا لا يؤمن بالتهديد بالعنف فقط، بل بتطبيقه أيضًا.
ولد كيسنجر عام 1923، ورغم إخلاصه للولايات المتحدة، شارك في الحكومة الأمريكية ولم يتورع عن انتقادها. عندما كان زميلًا بمجلس العلاقات الخارجية منتصف الخمسينيات، كتب أن البحث الأمريكي عن اليقين، والمستمد من الفلسفة “التجريبية الأمريكية”، كان له “عواقب وخيمة في إدارة السياسة”. وكما ذكر في كتابه الصادر عام 1957 بعنوان (الأسلحة النووية والسياسة الخارجية)، فإن “السياسة هي فن موازنة الاحتمالات”. ومحاولة ممارسة السياسة كعلم تؤدي حتمًا إلى الجمود….”
وكتب:”إن رفض التعسف والحسم يدفع صناع القرار الأمريكي لتأجيله حتى يتم الكشف عن كل الحقائق؛ ولكن إلى أن تظهر الحقائق، تكون الأزمة تطورت أو تكون الفرصة قد ضاعت. لذلك فسياستنا موجهة للتعامل مع حالات الطواريء.”
في أول عمل لكيسنجر بالخدمة الحكومية أصيب بخيبة أمل. عقب تنصيب الرئيس كينيدي شكل فريقًا من جامعة هارفارد للعمل في إدارته، وعمل كيسنجر كمستشار لمجلس الأمن القومي. وكانت التجربة مهينة. كتب إلى صديقه آرثر شليزنجر: “إذا لم أتمكن من العمل بكرامة، فلا فائدة من الاستمرار”. التهديد بالاستقالة كان فكرة مهيمنة في مسيرته المهنية.
خلال أزمة برلين عام 1961، لم تكن أفكاره موضع ترحيب في مكتب كينيدي البيضاوي. شارك كيسنجر ثقافة الجرأة التي عززها الرئيس الشاب. وبعكس كينيدي، فلم يكن يشعر بالقلق من خطر الأسلحة النووية. وكتب في الخمسينيات، أنه لم يؤمن بإمكانية نشوب حرب نووية محدودة يمكن النجاة منها فحسب، بل جادل بأن اللجوء لحرب نووية محدودة ضروري لردع الاتحاد السوفييتي.
في 1961، وصف كيسنجر إدارة كينيدي بأنها “أملنا الأفضل، وربما الأخير”، مع إشارة إلى أن منافس كينيدي في انتخابات عام 1960، ريتشارد نيكسون، لم يكن بديلًا مناسبًا. وعندما دفعت الظروف بكيسنجر لمدار نيكسون، وجد فرصة للعمل مع “شخص لديه رؤى عظيمة في السياسة الخارجية”. كانت السنوات الثماني التي بدأت عام 1969 هي الأكثر أهمية للسياسة الدولية النصف الثاني للقرن العشرين (باستثناء الفترة من 1989 إلى 1991). تلك الفترة شهدت السنوات الأخيرة لحرب فيتنام، وانهيار القوة غير الشيوعية في جنوب شرق آسيا، والإبادة الجماعية في كمبوديا، والانفراج بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والانفتاح الأمريكي على الصين، والحرب الأهلية بالأردن، والغزو التركي لقبرص، والحرب الهندية الباكستانية، والانقلاب العسكري في تشيلي، وحرب يوم الغفران بإسرائيل، وأزمة النفط العالمية التي تلت ذلك. في منتصف هذه الفترة، بدأت رئاسة نيكسون في الانهيار عقب الكشف عن إساءة استخدامه للسلطة ومشاركته في مؤامرة لعرقلة العدالة. وخلال هذه الفترة، كان كيسنجر يحلق منفردًا.
ظل كيسنجر ملتزمًا باستخدام القوة في النظام الدولي، وسرعان ما ظهر باعتباره العضو الأكثر تشددا في فريق نيكسون للأمن القومي. عندما أسقطت كوريا الشمالية طائرة استطلاع أمريكية في أبريل 1969، كان كيسنجر الصوت الرئيسي الذي يدعو لتوجيه ضربة انتقامية ضد كوريا الشمالية.
رفض نيكسون نصيحة كيسنجر بخصوص كوريا الشمالية. لكن نيكسون وافق كيسنجر على توجيه رسالة بالعنف وقرر إطلاق موجة من التفجيرات السرية للقواعد العسكرية الفيتنامية الشمالية بكمبوديا. وكان المتوقع أن يفهم السوفييت والصينيون الرسالة. هنا، أصبح كيسنجر مهووسًا بما اعتبره تحدي الحفاظ على ماء وجه أمريكا مع انسحابها من فيتنام.
مع كل انسحاب، كان يزداد قلق كيسنجر من أن واشنطن ستفقد القدرة على تخويف الفيتناميين الشماليين ودفعهم للتفاوض. وكان حله للمشكلة هو تصعيد الحرب الجوية، وفي عام 1970، تم توسيع قتال القوات الأمريكية إلى كمبوديا المحايدة.
ويقول نفتالي، إن الأمر الأكثر تعقيدا هو دبلوماسية كيسنجر المكوكية عقب حرب أكتوبر 1973. فقد أخافت الحرب كيسنجر. لم يتوقع الهجوم العربي المفاجئ على إسرائيل، لكنه كان يعتقد أن إسرائيل ستهزم العرب بسهولة وكان قلقًا من أن النصر الإسرائيلي قد يزعزع الانفراج مع السوفييت. وعندما أصبحت إسرائيل على حافة الانهيار العسكري، دعم كيسنجر الجسر الجوي العسكري الأمريكي. وبمجرد انحسار المد، سعى لربط إسرائيل وجيرانها بواشنطن وإبعادهم عن موسكو. لم يستطع كيسنجر إخراج موسكو من سوريا، لكن واشنطن كسبت مصر كحليف دائم، وهو إنجاز كان يبدو مستحيلًا في السابق.
رغم عبقريته الدبلوماسية، كان كيسنجر يعاني من نقطة عمياء أخلاقية ضخمة. ولم يعط وزناً كبيراً للعواقب الإنسانية المترتبة على الاختيارات النووية التكتيكية.
صمم كيسنجر برنامجًا سريًا لتنسيق دعم إيراني وإسرائيلي للقوات الكردية التي تقاتل نظام صدام حسين الموالي للاتحاد السوفيتي، وبذلك عطل جزءًا من الجيش العراقي، الذي كان يمكن أن يرسله صدام لمحاربة إسرائيل. ولكن عندما قرر شاه إيران، تسوية نزاع حدودي مع العراق وسحب دعمه للأكراد عام 1975، لم يفعل كيسنجر شيئًا بينما كانت القوات العراقية تقمع الأكراد.
وفي تشيلي، واصلت إدارة نيكسون سياسة كينيدي في نشر العمل السري لمنع الاشتراكي سلفاتوري الليندي من أن يصبح رئيسًا للبلاد. وأشرف كيسنجر على جهود وكالة المخابرات المركزية لتدبير انقلاب عسكري يمنع الليندي، الفائز بأغلبية ساحقة في الانتخابات، من أن يصبح رئيسًا للبلاد.
في العراق وتشيلي، ارتكب كيسنجر أعمالًا لاأخلاقية وغير قانونية. ولا شيء يفصله عن مذبحة المدنيين في فيتنام الشمالية عام 1972، فيما يعرف باسم “تفجيرات عيد الميلاد”. تظل هذه العملية العسكرية واحدة من أبشع قرارات السياسة الخارجية الأمريكية. في خريف 1972، كان كيسنجر قد تفاوض ببراعة مع هانوي حول الانسحاب الأمريكي، لكن جهوده قوبلت برفض فيتنام الجنوبية. ولطمأنة سايجون بأن واشنطن حليف موثوق به، دعا كيسنجر لقصف فيتنام الشمالية.
لم يكن هناك مبرر للهجوم الذي تضمن 729 طلعة جوية لطائرات B-52 التي أسقطت 15 ألف طن من القنابل. وأدى الهجوم لمقتل حوالي 1000 مدني فيتنامي، لكن لم يكن له تأثير على القوة العسكرية لأي من الجانبين أو موقفه التفاوضي. كان الخط الفاصل في مسيرة كيسنجر المهنية المعقدة هو الاقتناع بأنه كلما كانت مصداقية الولايات المتحدة على المحك، لا بد من سفك دماء المواطنين الأجانب.
لم ينحسر تأثير كيسنجر بعد أن ترك وزارة الخارجية عام 1977. وحتى بدون منصب وزاري، ظل مستشارًا للجان الرئاسية رفيعة المستوى وقدم المشورة للرؤساء اللاحقين.
ويرى نفتالي أن مذكرات كيسنجر المؤلفة من ثلاثة مجلدات ستصبح المحطة الأولى للطلاب في الفترة المضطربة للشؤون العالمية من عام 1969 إلى 1977. استبعدت رواية كيسنجر للأحداث عاطفيته، وتفضيله لاستخدام القوة، ولامبالاته بحقوق الإنسان، والتنازلات الأخلاقية التي كان يقدمها للبقاء على مقربة من زعيم متعصب ومصاب بجنون العظمة مثل نيكسون.
في الواشنطن بوست كتب ايشان ثارور وسامي وسستفال: “خارج الغرب، لم يكن إرث كيسنجر يحظى بالإعجاب. لا ينسى أحد دوره المباشر في القصف الشامل لكمبوديا بلا رحمة والتمكين غير المباشر لأعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبها الخمير الحمر. وفي سعيه القاسي لتحقيق مقتضيات الحرب الباردة، حرض كيسنجر على العنف البشع في جميع أنحاء العالم. ويمكن رؤية يديه، ملطخة بالدماء في الحروب القذرة التي شنتها الطغمات العسكرية اليمينية في أمريكا اللاتينية، وفي الدعم الضمني لحكومات الأقلية البيضاء المتعصبة في أفريقيا، وفي إعطاء الضوء الأخضر لغزو الدكتاتورية الإندونيسية لتيمور الشرقية عام 1975 والصراع والمجاعة التي خلفت حوالي 200 ألف قتيل في الجزيرة الصغيرة.
في جنوب آسيا يتذكره الناس بشدة للدور الذي لعبه هو ونيكسون خلال الفترة الدموية التي أدت لظهور دولة بنجلاديش المستقلة عام 1971.
وفي كتابه “القيادة”، وصف كيسنجر رئيسة وزراء الهند السابقة إنديرا غاندي بأنها “مصدر إزعاج” ووصفها مرارًا وتكرارًا بأنها “عاهرة”. بالإضافة إلى وصف الهنود بـ«الأوغاد» و«أبناء العاهرات».