وفي مناطات عتاب الله لنبيه ومضات تدعوا للتأمل الدائب على اتساع رقعة الزمن إلى أقصى حدوده، إذ يفوح من العتاب أدق إرهاص للمستقبل قريبه وبعيده، وفي مُجمل صُور العتَاب التأديب الأليق بخاتم الرسل وأفضلهم، وأعظم خلق الله وأنقاهم وأطهرهم….
يُعَاتَبَ النبي على موقفٍ مَا يكتنفه الغموض، فيجني ثمرة العتاب بالنبأ الإلهي فالق الإصباح المُبين….
دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُدٍ على ثلاثة ونعتهم باللفظ الصريح ( اللهُم العن الحارث بن هشام، والعن سهيل بن عمرو، والعن صفوان بن أمية) فجاءه العتاب من ربه ( ليسَ لكَ منَ الأَمرِ شيءٌ أو يَتُوبَ عَليهم أَو يُعذِبَهُم فَإنَهُم ظَالمُون ) آل عمران 128
كأنه يقول لنبيه لا تَعجَل على هؤلاء، فسيسلموا يوماً وقد كان..
وأسلم الثلاثة وأبلوا أعظم بلاء في الجهاد تحت لواء رسول الله…
لكن لما أعرض رسول الله عن عبدالله بن أم مكتوم الأعمى، رغبة في تهذيب وتقريب صناديد قريش أنزل الله معاتباً نبيه ( عَبسَ وتَولَى أن جَاءَهُ الأَعمَى) .. كان اللّهُ يعلم في غيبه وقضائه المُبرم، أن أبا جهل وأبا لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والعاص بن وائل لن يؤمنوا ، وغُلِفّ على قلوبهم بالكفر المؤبد..
فيُري الله نبيه في قادم الأيام ، أن هؤلاء لا يستحقون الحُزن ولا الشفَاعة لأنهم سيموتون كفاراً ، فيقول أعز من قائل ( فَلا تَذهَبَ نَفسُكَ عَليهِم حَسَرّات إنّ اللّهَ عَليمٌ بمَا يَصنَعُون ) فاطر 8
وكما يأتي العتاب مؤدباً ومقوماً خير البشر ( أدبني ربي أحسن تأديب) ..
فهو يُمثل إحاطة إلهية محكمة بصغير الأمر وكبيره، دقه وجله، بما كان وما هو كائن وما سيكون… فيجلي العليم الخبير بديع هيمنته وعظيم حكمته في آية إعجازية استنكارية ( ألَا يَعلَمُ مَن خَلق) الملك 14..
كذلك جاء العتاب في أسرى بدر في سورة الأنفال، الذين خلا سبيلهم رسول الله بأخذ الفدية دون أن يُثخنهم ( مَا كَانَ لنَبيِ أن يَكُونَ لهُ أسرَى حتَى يُثخِنَ في الأَرض تُريدُونَ عَرَضَ الدُنيَا واللهُ يُريدُ الآخِرة واللّهُ عَزيزٌ حَكيم ) الأنفال 67
وجاء العتاب في سورة التوبة، بالإمساك عن الاستغفار للمشركين ( مَا كَانَ للنَبي والذينَ آمَنُوا أَن يَستَغفِرُوا للمُشركِينَ وَلَو كَانُوا أُولي قُربَى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) التوبة 113
وبالتأنيب على إعفاء المنافقين من القتال مع جيش المسلمين في تبوك ( عَفَا اللهُ عنكَ لمَا أذِنتَ لهُم حَتَى يتَبَينَ لكَ الذينَ صَدقُوا وتَعلَم الكَاذبين ) التوبة 84
ويُعَلِم اللهُ نبيه أن يُرجيء المشيئة لربه، فيعاتبه على إخباره اليهود لأمر دون أن يُحيله لمشيئة الله سهواً ( وَلَا تَقُولَنّ لشيءٍ إني فَاعِلٌ ذَلكَ غَداً إلا أَن يَشَاءَ الله واذكُر رَبَكَ إذا نَسيت ) الكهف 23
أما صورة العتاب الوحيدة التي امتثل لها النبي تشريعياً، غير أن قلبه لم يَعفُ عن فاعلها.. لما قتل وحشيٌ حمزة، ومثل بجثته، فقال النبي وصحابته ( والله لئن أظفرنا بهم الدهر يوماً لنمثلن بهم مُثّلة لم يمثلها أحد من العرب… فأنزل الله ( وإن عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بمثلِ مَا عُوقِبتُم بهِ وَلئِن صَبَرتُم لهُو خيرٌ للصّابرين) النحل 126 ..
وبمقتضى هذه الآية نهى النبي عن المثلة.. أما واقعة مقتل عمه والتمثيل بجثته، فلم يغفرها لوحشي ، بل قال له يا وحشي هل تستطيع أن تغيب وجهك عني ؟
فامتثل وحشي ولا جَرّم في إيمان وحشي
ولا غضّاضّةَ على نقاء قلب النبي