يُعد قطاع الصناعة التحويلية أكثر القطاعات قابلية للتجارة، وبالتالي سيساهم توطين الصناعة في زيادة الصادرات وتقليل الواردات، مما سيزيد من الفائض التجاري، أو سيساهم في الحد من العجز التجاري، وسيزيد من تدفق العملة الأجنبية ويحد من الإنفاق منها، وسيساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي وخصوصًا في السلع الاستراتيجية. إضافة إلى ذلك، ستساهم في توفير فرص عمل وبالتالي انخفاض معدلات الفقر. في إطار جهود الدولة الأخيرة لتعزيز الصناعات التحويلية،
وبالتوازي مع المبادرة الرئاسية لإنشاء مجمعات صناعية، أعلنت وزيرة التجارة والصناعة “نيفين جامع” عن وجود 1657 وحدة في سبع مناطق صناعية من أصل 13 منطقة صناعية كاملة المرافق ومهيأة للحصول عليها بالترخيص مع توفير معارض لتسهيل بيع المنتجات وتقديم تيسيرات أخرى للحصول على البطاقة الضريبية والسجل التجاري، كما أعلنت عن إلغاء جميع المصروفات المتعلقة بالتقديم، وخفض مقدم الحجز إلى عشرة آلاف جنيه مع التعاقد مع 8 بنوك لتوفير نظم للتقسيط.
إضافة إلى ذلك، وفقًا لوزارة التجارة والصناعة، وفي إطار سعي الدولة لمضاعفة الصادرات ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتحسين جودة المنتج المصري وهيكلة تكلفة الإنتاج؛ قام مجلس الصناعة للتكنولوجيا والابتكار بوضع استراتيجية للمرحلة الجديدة لتوفير: أولًا: خدمات الدعم الفني والتشغيل على الآلات والمعدات بالمراكز التكنولوجية، ورفع كفاءة الكوادر الفنية المطلوبة لنقل وتوطين التكنولوجيا. ثانيًا: إجراء الاختبارات المتخصصة لتطوير المنتجات الصناعية وزيادة القيمة المضافة. ثالثًا: توفير الحضانات التكنولوجية، أخيرًا: تسهيل الحصول على تمويل وتوفير المساندة المالية لشركات التصدير. ووفقًا للهيئة العامة للاستعلامات في تقريرها المتعلق بقطاع الصناعة، تم إصدار قانون لتيسير إجراءات منح التراخيص الصناعية (رقم 15 لسنة 2017) لتقليل المدة الزمنية اللازمة لإصدار ترخيص صناعي من 634 يومًا إلى أقل من أسبوعين.
فلابد وأن تنطلق أي خطط أو محاور للتحرك لتحديد الخيارات أو البدائل المختلفة لتطبيق السياسة العامة الجديدة لتعميق الصناعة في مصر، من الأهمية القصوى لتعزيز درجة الروابط الأمامية والخلفية لتعظيم القيمة المضافة للصناعة المصرية، وكذا المصالح المشتركة بين كافة الأطراف الفاعلة بها، وذلك وفقاً لعدد من المحددات الهامة يتمثل أهمها في البدء بالصناعات ذات العلاقات التشابكية القوية مع باقي القطاعات الاقتصادية الأخرى، وفقاً لاعتبارات القدرة على النمو السريع، القيمة المضافة، وتوفير فرص العمل، فضلاً عن أهمية دراسة هيكل تكاليف كل قطاع صناعي ووضع خطة لاستهداف خفض تلك التكاليف، مع ضرورة قيام الحكومة بوضع خطة لتحفيز المستوردين على إقامة مشروعات صناعية وانتاجية بديلا لاستيراد المنتجات تامة الصنع من الخارج.
كما يجب أن تكثف الحكومة المصرية أيضاً من جهودها المستمرة في إقامة التجمعات الصناعية العنقودية أو التكاملية (Cluster Industries) بشكل خاص، حيث تساعد تلك التجمعات على تخفيف الأعباء المادية والفنية لسلاسل الانتاج والتوريد المحلية، فضلا عن أهمية دعم مشروعات ريادة الأعمال وخاصة الصناعية والإنتاجية منها وعدم الاقتصار على دعم المشروعات الخدمية فقط، مع أهمية تكوين شراكات مستدامة بين المنشآت الصناعية والموردين المحليين، هذا
بالإضافة الى حصر الطاقات الإنتاجية المعطلة في الصناعات المختلفة وطرح برنامج متكامل لتشغيل وتطوير تلك الطاقات الإنتاجية غير المستغلة، مع أهمية سرعة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المتخذة مؤخراً من قبل الدولة كوثيقة ملكية الدولة والتى تم اطلاقها في يونيو 2022 بهدف تنظيم تواجد الدولة في النشاط الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص وتعزيز فرص تواجده ومساهمته في كافة الأنشطة الاقتصادية.
وأخيراً، يمكننا القول بأن مشروع توطين وتعميق الصناعة في مصر يجب أن يأتي على رأس أولويات أجندة صانع القرار المصري؛ كأحد المشروعات القومية أو الاستراتيجية، وذلك نظرا لتأثيره الإيجابي والفعال على مجمل المؤشرات الاقتصادية الكلية،
فضلاً عن مساهمته الكبيرة في الحد من التداعيات العالمية المتنوعة والمتتالية على الاقتصاد المصري لاسيما ما يتعلق منها بارتفاع الأسعار والتضخم المستورد الناتج عن ارتفاع تكاليف الاستيراد من الخارج.
تأثرت جميع مؤشرات الاقتصاد المصري الكلي سلبًا بتطورات الاقتصاد الإقليمي والعالمي -من حيث الصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة والسياحة وتحويلات العاملين بالخارج- وذلك إثر انخفاض سعر البترول وتوقف الإنتاج والتصدير مع عدد من الدول ذات العلاقات التجارية مع مصر. وكذلك تأثرت مؤشرات الاقتصاد بالتقلبات السياسية التي شهدتها الدولة إبان ثورة يناير 2011؛ فقد انخفض معدل النمو الاقتصادي من متوسط 5% في الخمسة أعوام السابقة على 2011، إلى متوسط 2% في الأربع سنوات التالية لها.
وترافق مع ذلك ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ضعف معدلات الإنتاج. بالإضافة إلى ارتفاع معدلات عجز الميزان التجاري نتيجة تأثر التنافسية السعرية للصادرات المصرية بالأسواق الخارجية. خاصة أن الصادرات المصرية كانت أهم مصدر للعملات الأجنبية، ففي عام 2014/2015 تفوقت الصادرات المصرية على تحويلات العاملين بالخارج كأهم مصدر للعملات الأجنبية.
أما عن الوضع الراهن، فلم تكن مصر بمعزل عن مجريات الأمور بالعالم؛ فمثلت جائحة كورونا صدمة هائلة للاقتصاد المصري، وأدت إلى توقف مفاجئ للسياحة التي كانت تسهم في بداية الأزمة بنحو 12% من إجمالي الناتج المحلي، وتوفر 10% من فرص العمل، و4% من إجمالي الناتج المحلي من الدخل بعملات أجنبية. وكذلك تعرضت موازنة الحكومة للضغوط بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي الذي أسفر عن انخفاض الإيرادات الضريبية.
إلا أنها في المجمل استطاعت الصمود أمام الجائحة، وكانت من الدول القلائل التي استطاعت تحقيق معدلات نمو إيجابية رغم الجائحة؛ بفضل الإصلاحات التي نفذتها منذ عام 2016 لتسوية الاختلالات الاقتصادية الكلية، وكذلك إطلاق البنك المركزي عدة مبادرات مثل: تأجيل سداد الاستحقاقات الائتمانية دون أي غرامات أو رسوم إضافية، وتخفيض أسعار الكهرباء، وتمديد التراخيص والسجلات الصناعية منتهية الصلاحية، وتأجيل سداد الضرائب العقارية المستحق سدادها على المصانع والمنشآت السياحية لمدة 3 أشهر، وصرف 3 مليارات جنيه من مستحقات المساندة التصديرية المتأخرة للمصدرين؛ لتخفيف الضغوط على المقترضين وضمان توافر السيولة للقطاعات الأشد تأثرًا، وغيرها من الإجراءات التي تم اتخاذها والتي خففت من وطأة الأثر الصحي والاجتماعي للجائحة مع ضمان الاستقرار الاقتصادي، واستمرارية القدرة على تحمل الدين، والحفاظ على ثقة المستثمرين، والتي كان لها أثر إيجابي على أداء الشركات.
ورغم ذلك، كان للجائحة أثر سلبي على القطاع الصناعي المصري؛ إذ سجل مؤشر أداء القطاع الصناعي –الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) سبتمبر 2020- انخفاضًا عند 0.413 (من 0.0 إلى 0.5 انخفاضًا في الأداء؛ 0.5 لا تغيير ؛ من 0.5 إلى 1.0 زيادة في الأداء) منذ اندلاع الجائحة.
فقد أدت جائحة كورونا إلى تباطؤ نشاط القطاع الصناعي في مصر؛ بسبب: عمليات الإغلاق، والإجراءات الاحترازية، وتراجع الطلب المحلي والدولي، واختلال سلاسل التوريد العالمية المرتبطة بمصر، وأيضًا بسلاسل القيمة التي تربط القطاع الصناعي بالسوقين العالمية والمحلية. وكان الأثر واضحًا بشكل أكبر في الصناعات التي تعتمد على مستلزمات الإنتاج المستوردة من الخارج وخاصة من الصين، والتي تأتي في المرتبة الأولى بين الدول الموردة لمصر
ووصلت نسبتها إلى 16.2% من جملة الواردات بإجمالي قيمة 14.4 مليار دولار خلال عام 2021. وهو ما أثر على العرض والطلب في هذا القطاع، وبالتالي التأثير على مبيعات وإيرادات بعض المصانع مسببة مشاكل نقص سيولة.
وعلى الرغم من ذلك استطاع القطاع الصناعي الصمود أمام الجائحة. فلم يتم إغلاق مصنع واحد أثناء الجائحة؛ لكون ملف الصناعة يحتل أولوية قصوى على أجندة عمل الحكومة، فالنهوض بقطاع الصناعة يسهم إلى حد كبير في إحداث نقلة اقتصادية حقيقية. إلى أن أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد حالة الضبابية والضغط التي يعيشها الاقتصاد العالمي والمصري كجزء لا يتجزأ منه.