في أحدث رسالة وجهها الجمعة الماضية بعد شهر من الغياب، أكد الرجل الملثم (أبو عبيدة)، الناطق باسم كتائب القسام، أن يوم 7 أكتوبر 2023 كتب بداية النهاية للكيان الصهيونى، وأن معركة طوفان الأقصى ستغير وجه المنطقة إلى الأبد، وأن المقاومة تكبد العدو خسائر لم يسبق لها مثيل فى تاريخ النضال الفلسطينى، وكشف أن العدو لا يعلن الحقائق كاملة بخصوص خسائره أمام المقاومة، ويبالغ فى الحديث عن إنجازاته المزعومة التى لا يصدقها حتى حلفاؤه، لأنها إنجازات وهمية.
وبالفعل يكاد يجمع المحللون السياسيون على أن هجوم 7 أكتوبر يمثل نقطة فاصلة بالنسبة لإسرائيل وللقضية الفلسطينية على حد سواء، فما حدث فى ذلك اليوم أسقط نظرية الأمن الإسرائيلى، التى بنيت على أسطورة التفوق العسكري والأمني على جميع الجيران، وأنهى حلم اليهودى العالمي الذى يهرول إلى إسرائيل طمعا فى الإغراءات الثلاث؛ الجنسية والسكن والعمل، لكي يحصل على نصيبه من (أرض الميعاد)، ويعيش فى أكثر مناطق العالم جمالا وأمنا، وبسقوط هذه الأسطورة لم تعد الهجرة إلى إسرائيل حلما بالنسبة للأجيال اليهودية الشابة المنتشرة فى أنحاء العالم، التى تبحث عن الرفاهية السهلة، بل صارت كابوسا لا يستحق المخاطرة.
ولم يعد فى مقدور أية حكومة لإسرائيل بعد 7 أكتوبر أن تستمر فى الاستخفاف بقضية الشعب الفلسطيني، وتتجاهل ضرورة الالتزام بالحل الجذري للصراع القائم منذ مطلع القرن الماضى، الذى جسدته قرارات الأمم المتحدة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وقد ثبت أن الالتفاف على هذه القرارات وتمييعها لا يحقق استقرارا، ولا يجدى نفعا، كما أن التطبيع المغشوش مع بعض دول المنطقة لن يغنى عن الحل العادل للقضية، وإلا فستبقى جذوة المقاومة مشتعلة جيلا بعد جيل، ولن يهنأ اليهودي بالأمن فى أرض فلسطين المحتلة، ولو أحاط نفسه بالقنابل النووية.
لقد فرضت الحرب الحالية واقعا جديدا، أحيت فيه السردية الفلسطينية عن حق الشعب المقهور فى الدفاع عن أرضه ومقدساته حتى ينال حريته واستقلاله، وأجبرت العديد من دول العالم على الاعتراف بأن المقاومة الفلسطينية حركة تحرير وطنية، وليست إرهابا كما تروج الأبواق الإسرائيلية، وخلقت رأيا عاما ضاغطا على المستويين العربي والعالمي، بل داخل إسرائيل نفسها، لإيقاف الإبادة الجماعية فى غزة، والتوصل إلى حل سياسي بدلا من منطق القبضة الحديدية والحصار العنصري.
ووصف أبو عبيدة فى رسالته النساء الفلسطينيات بـالخنساوات، تشبيها لهن بالخنساء الشهيرة فى جلدها وحصافتها وشدة بأسها، وهي المرأة العربية التى رثت أخويها اللذين قتلا فى إحدى معارك الجاهلية، وأحيت النخوة فى قبيلتها، وحرضت على الثأر واسترداد الكرامة، وعندما أدركت البعثة المحمدية أسلمت وحسن إسلامها.
وبالرغم مما تعرضت له المرأة الفلسطينية على يد الاحتلال منذ عقود، وما تتعرض له حاليا جراء القصف المستمر للمدنيين، إلا أنها أذهلت العالم بصمودها، وقدمت نموذجا رائعا للتضحية فى سبيل الوطن والحرية، ولم تفقد إيمانها بعدالة قضية شعبها، وظلت هي الجدار المنيع الذى يصطدم به مشروع الاحتلال.
وتقول التقارير أن 70% من ضحايا القصف والعدوان الصهيونى من النساء، ومع ذلك لم تتحرك المنظمات النسائية لنصرتها والتضامن معها، مثلما يحدث فى أقل جريمة تقع على امرأة في أبعد نقطة من العالم، ورغم هذا الخذلان المبين لم تيأس المرأة الفلسطينية، ولم تضعف، ولم تتنصل من المقاومة، وظلت المحور الرئيس لحشد المواقف والطاقات، وضخ العزيمة فى نفوس الشباب والرجال، ومازالت تزغرد حين تزف الشهداء من الأبناء والأزواج والآباء والإخوة.
وكرر الرجل الملثم فى رسالته كلمة (الأمة) أكثر من مرة، مشيرا إلى (عدو الأمة)، و(صراع الأمة التاريخى)، و(الدفاع عن الأمة)، مؤكدا أن المقاومة الفلسطينية لا تقاتل من أجل تحرير فلسطين فقط، وإنما من أجل حماية الأمة بأسرها من التمدد والتغول الصهيونى.
ومعروف تاريخيا أن الحروب الصليبية قبل تسعة قرون كانت مركزة فى هذه البقعة الصغيرة من العالم، فلسطين والقدس، وحين زحف الصليبيون إلى القدس بدعوة من البابا أوربان الثاني فى فرنسا لم يتحدث المسلمون فقط عن احتلال القدس، بل عن حروب صليبية ضد الإسلام، وضد الأمة كلها، لأنهم كانوا يفهمون الرسالة على وجهها الصحيح، وكانوا ينطلقون من الوعي القرآني، لذلك انتصروا وطهروا بلادهم من الاحتلال، واستقر فى ضمائرهم أن أمنهم القومي لا يتجزأ، وأن الدفاع عن هذا الأمن لايكون داخل الحدود، فمن حيث يأتى المعتدي يكون الخطر، وتكون المواجهة.
وعندما وهن المسلمون وتفرقت كلمتهم، استقر الصليبيون فى القدس، ولم يكتفوا بذلك، إنما توالت حملاتهم إلى دمشق ولبنان ومصر، حتى وصلوا إلى تطوان فى الغرب، وإلى عمان والخليج فى الشرق، ولذلك كانت حروب تحرير المنطقة تبدأ أيضا بالقدس، حيث رأس الأفعى، وهو ما يحدث اليوم فى الحروب الصليبية الحديثة، التى أنبأ عنها رؤساء أمريكا المعاصرون، من بوش إلى بايدن، ومعهم الحلفاء الغربيون، الذين يعطوننا من طرف اللسان حلاوة، ويمدون إسرائيل بالسلاح والمال والمقاتلين.
لذلك فإننا حين نقف اليوم مع المقاومة وندعمها، فإننا فى الواقع ندافع عن وجودنا وكرامتنا وأمننا القومي ومستقبل أوطاننا، انطلاقا من إيماننا الراسخ بوحدة المصير، فالمقاومة تقاتل ـ كما قال الملثم ـ كي ترد للأمة قوتها وكرامتها، ولو انهزمت المقاومة أو انكسرت ـ لاقدر الله ـ فسوف تكون النتيجة وخيمة على الأمة، وسوف تزداد إسرائيل شراهة إلى الهيمنة والابتزاز، وممارسة أقصى درجات الاستعلاء والبلطجة على الجميع.