أثرى الناقد التونسي الكبير، الدكتور محمد رجب الباردي، رحمه الله، المكتبة النقدية والإبداعية العربية بكثير من المؤلفات، التي أضحت مراجع مهمة في بابها، لا يستغني عنها دارس، أو باحث، أو قارئ عادي شغوف بقراءة النقد والتحليل الأدبي، أو الإبداع القصصي والروائي، ويمكن أن نذكر إجمالا بعضا من أعماله النقدية مثل: “الرواية العربية والحداثة”، و”شخصية المثقف في الرواية العربية المعاصرة”، و”حنا مينا كاتب الكفاح والفرح”، و”في نظرية الرواية”، و”إنشائية الخطاب في الرواية العربية المعاصرة”، و”سحر الحكاية، المروي والراوي والميتاروائي في أعمال إلياس خوري”، و”عندما تتكلم الذات..السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث”، وكذلك أعماله الإبداعية الروائية مثل: مدينة الشموس الدافئة، الملاح والسفينة، قمح أفريقيا، حوش خريف، على نار هادئة، الكرنفال، حنة.
يكتب محمد الباردي النقد بأسلوب سلس يفهمه المتخصص والقارئ العادي، بمستوييهما الفكري والثقافي المتباين، متتبعا الفكرة أو القضية التي يعالجها بشمولية وموسوعية، توحي بذكاء فطري خلاق، متكئ على الممارسة النقدية الخبيرة في قراءة النص وتحليله، وفقا لمناهج النقد الحديثة، بإجراءاتها وفلسفاتها المتعددة والمتنوعة في آن، وكذلك ممارسته
ففي كتابه “الرواية العربية والحداثة”، الصادر عن دار الحوار بالعاصمة السورية دمشق، تتبع فيه بالتحليل والدراسة قضية الحداثة والتحديث في الكتابة الروائية العربية، عبر نماذج من الرواية المصرية الحديثة لأبرز كتابها، ممن جددوا في الكتابة الروائية، أسلوبا وبناء وتقنية، مثل صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد، مع المقارنة ببعض الأعمال الروائية لكتاب غربيين، وبيان تأثيرهم في الكتاب المصريين والعرب، مثل آلان روب جرييه، وميشال بوتور، وناتالي ساروت، وغيرهم، مع أهمية الإشارة إلى الظروف والتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي أدت إلى التغيير في آليات الكتابة وفلسفتها.
وفي كتابه “الحداثة وما بعدها في الرواية العربية”، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، والذي يعد – في تقديرنا- استكمالا وبناء على الدراسة السابقة، يتناول بالتحليل رهانات التجريب في الرواية العربية، عبر بعض النماذج من الرواية التونسية، وكذلك يتناول روايات تمثل اتجاه ما بعد الحداثة، أو ما يطلق عليه الرواية الكلاسيكية الجديدة، مثل روايات: “متاهة الجسد” للروائي خليفة حسين مصطفى، و”شيكاغو” لعلاء الأسواني، بالإضافة إلى الإشارة إلى عالم إبراهيم الكوني الروائي، وسماته، ويرى من خلال دراسته لهذه الروايات، أنها تمثل عودة وارتدادا إلى الرواية الكلاسيكية، من حيث الاتكاء على أساليب السرد التقليدي إلى حد بعيد، فيقول: ” ففي الرواية الكلاسيكية الجديدة عودة إلى الشخصية الروائية من بابها الكبير، بكل ما تحمل من أبعاد اجتماعية ونفسية وأيديولوجية، وبكل وظائفها السردية، باعتبارها مقوما أساسيا من مقومات السرد، لا مجرد عامل تستند إليه مجموعة من الأعمال، وفيها كذلك احتفاء بإطاري الزمان والمكان، باعتبارهما محددين متلازمين لمعالم الشخصية الروائية وأبعادها الاجتماعية والنفسية والأيديولوجية، ودلالاته الثقافية الفكرية، كما يتميز العالم الروائي فيها بقوة إحالته المرجعية” ( الحداثة وما بعدها في الرواية العربية، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠١٤، ص١٣٤).
ومع اتفاقنا في كثير من هذه المقولات النقدية المهمة، لكن هذا الحكم النقدي لا يمكن تعميمه على كل الأعمال الروائية العربية والمصرية على السواء، فلا تزال الساحة الإبداعية تعج بكثير من الكتابات المتنوعة الاتجاهات، من تاريخية ورومانسية وفانتاستيكية عجائبية، تتداخل فيها أجناس أدبية أخرة كثيرة، كالسيرة الذاتية، والدراما( المسرح) والشعر والمذكرات والرسائل وغيرها، فهناك من يكتب بأسلوب السرد التقليدي، ومن يكتب على نسق الرواية الجديدة كما ظهرت في فرنسا وغيرها، ومن يكتب على طريقة الحساسية الجديدة…. إلخ.
وإذا كان الباردي قد تناول قضايا الحداثة وما بعد الحداثة في الرواية العربية، فإن بحثه القيم عن ” السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث..حدود الجنس وإشكالاته” يعد من الأبحاث البالغة الأهمية في هذا المقام، لأمور عدة منها:
أولا: إشارته إلى العلاقة الوثيقة بين السيرة الذاتية والرواية، عبر تناول نماذج إبداعية لكتاب كبار مثل ثلاثية حنا مينا: “بقايا صور، المستنقع، القطاف”، والخبز الحافي”، و”زمن الأخطاء” لمحمد شكري، و”سنين الحب والسجن” لعبدالله الطوخي، و”رجع الصدى” لمحمد العروسي المطوي، و”كتاب التجليات” لجمال الغيطاني.
ثانيا: أن هناك اضطرابا على مستوى المصطلح(السيرة الذاتية) وأنه يصعب الحديث عن جنس أدبي نقي، يضمن لنا -على حد قوله- حدودا واضحة جلية في علاقته بالأجناس السردية التي تجمع بينها وشائج قربى، وأن المواثيق العلنية التي يلتجئ إليها الكتاب أو ناشروا كتبهم لا تؤكد فقط اضطراب المصطلح، بل في مستوى المفهوم الأدبي، متسائلا: فهل هذه النصوص سير ذاتية أم سير ذاتية مروية، أم روايات سير ذاتية، أم روايات أم مذكرات؟
ثالثا: أن تعامل المبدع العربي الحديث مع السيرة الذاتية تجاوز المفهوم التقليدي لهذا الشكل الكتابي، الذي ترسب لدى نقاد الأدب وقرائه عامة.( محمد الباردي: السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث..حدود الجنس وإشكالاته، مجلة فصول، العدد مج١٦، العدد٣، شتاء ١٩٩٧، ص ص٧٧، ٧٨).