يقدم الدكتور حمزه علاوي مسربت -العراق دراسة نقدية لقصيدة طفلة المسافات للشاعرة التونسية (د.آمال صالح).
من ضوء النهار
لملمت خيوط أشعاري
سمعت أنها تسافر مع المدى
حين تعود سأسافر معها
أغلقت الباب
لا أريد خيبات أخرى
تلك العالقة في جدار النسيان
لا زالت تنبض بالحزن
أريد أن يعرفني المدى
بيني وبينه مسافات
لم أعثر عليها
سأشق غبار المدينة
وأرى حظي
ربما أرسم من جراحه
قصة جديدة
حتما سأكون أقوى
حتما ستأتي الخلجان
بموانىء غير متعبة
تحتضن هشاشتي
وأقترف حبا غجريا لذاتي
ستصادفني طفولتي
أصافحها بعيني المحبة
ربما كان العناق حارا
يشبه وجه القمر
يلملم خيوط القصيدة
ويعاند المسافات
أغلقت كل الأبواب
لتبقى الطفولة
حرة…!
يمنح عنوان قصيدة الشاعرة التونسية(آمال صالح)قراءات متعددة، مدهشة،يحدث حالة من الاستغراب للتآلف بين الطفلة والمسافات،يدلي بوجود ابعاد نفسية،وتساؤلات تستوطن على محمل اللفظتين. يستدعي القارىء للابحار داخل النص، وكشف المحرق الدلالي الكامن وراء المسافات.
** من ضوء النهار
لملمت خيوط أشعاري
سمعت أنها تسافر مع المدى
حين تعود سأسافر معها **؛
تهب الشاعرة المتلقي نقلات ايقاعية زمنية انبلجت من الافعال-لملمت،سمعت، تسافر، تعود وساسافر؛هذه التراكيب النحوية والزمنية لها ابعاد نفسية . تعاني الشاعرة من تشظي لغتها القادمة من ذاتها السلبية. تميزت المقطوعة بصورتها الفنية التي حملت ايحاءا،وخيالا استمد من الدلالات الكونية -الفجر والضوء وانحدارات المسافات وتدورها في تعاقب زمني ؛وهذا مايمنح المتلقي انطباعات حسية: بصرية،سمعية،وصورة مجازية تحرك ذهنية القارىء ما بين الانتظار والترقب؛الفعل تسافر -ورد الفعل- العودة.
*أغلقت الباب لا أريد خيبات أخرى تلك العالقة في جدار النسيان لا زالت تنبض بالحزن أريد أن يعرفني المدى بيني وبينه مسافات لم أعثر عليها سأشق غبار المدينة وأرى حظي*؛
تستخدم الشاعرة مفردات -خيبات، النسيان والمسافات -ذات دلالات نفسية،ايقاعات صوتية تعبر عن كناية فقد الامل والاخفاق في الوصول للهدف، وكذلك تحمل علاقات تواصلية مع عناصر الصورة الفنية لبنية النص.تحاور الشاعر صورتها الذهنية ما بين ماض مرورا بالحاضر وما يحمله المستقبل؛وهذا مايحافظ على الفضاء الزمني والنفسي للصورة الشعرية.توظف الطباق السلبي ما بين -اريد ولا اريد،كي تعمل على تفعيل حركة النص ،ومنح المتلقي قراءة دلالة التشتت الذهني للشاعرة .توظف اسلوب الالتفات ما بين متكلم –الشاعرة ،ومخاطب غائب،من اجل تحفيز مشاعر المتلقي ،كي يتوافق الفضاء النحوي والبلاغي لاكمال الصورة الفنية للنص.تتخذ من لفظة -المدى-كناية عن مد البصر،من اجل اغناء الفضاء الدلالي للنص ؛ومن -غبار المدينة – تعبيرا مجازيا عن الغربة والضجيج .
** ربما أرسم من جراحه
قصة جديدة
حتما سأكون أقوى
حتما ستأتي الخلجان
بموانىء غير متعبة
تحتضن هشاشتي
وأقترف حبا غجريا لذاتي
ستصادفني طفولتي**؛
تعد الشاعرة طفولتها مرحلة اقتران، ظلال،واجتياز يضفي عليها زمنا نفسيا،وحوارا بين ذاتها وموضوع الطفولة بعد الوعي.تعيش مابين الشك واليقين من خلال لفظة ‘ربما’. ترسم صورة فنية من لون جراحه، التي تحمل دلالات منها سلبية:الغضب والاثارة النفسية-التعب، وايجابية رمز الحياة.احدثت الشاعرة انزياحا صوريا لقصة الماضي ورسم المتغيرات الشعورية في قصة جديدة. توظف التكرار اللفظي -حتما-لاضفاء مسحة ايقاعية للنص،تتواشج والدلالات الاخرى،فضلا عن دلالتها في الحزم والبت في خطابها ؛ وكذلك وظفت -س-للدلالة على متغيرات الزمن القادم والتأكيد . تستخدم تعددية المعنى من خلال الكناية عن- ستأتي الخلجان /الحياة ،بموانىء غير متعبة /باحضان قوية،تحتضن هشاشتي /تمنحها القدرة والحنان. تتخذ من الحب الغجري كناية عن تحرر ذاتها،واقترانها بنشوة الطفولة المتراقصة،الخالية من الهموم، والشعور بزهوتها.تحاول الشاعرة الرجوع للطفولة للتخلص من الاحباط الذي يستوطنها؛فضلا عن ان الطفوله رمزا حسيا ودراميا يثري النص .
*أصافحها بعيني المحبة ربما كان العناق حارا يشبه وجه القمر يلملم خيوط القصيدة ويعاند المسافات أغلقت كل الأبواب لتبقى الطفولة حرة…!*
تثري الشاعرة نصها الشعري بالدلالات الزمانية والمكانية ما بين: الطفولة، ضوء النهار -الشمس ،المدى، المدينة، الموانىء والقمر،هذه الرموز تفتح النص امام العديد من التأويلات والتفسيرات المختلفة،وحسب قراءة المتلقي .تحاول الشاعرة استعادة برائتها المفقودة عن طريق الطفولة ما بين الذكريات والخيال. تستخدم اللغة المجازية(القمر) لانبلاج دلالة الجمال، والحرية؛فضلا عن ذلك انها عبرت عن دلالة زمنية متكاملة،من خلال جمعها في النص ما بين القمر ليلا، والشمس-ضوء النهار- لتمنح المتلقي صورة حسية جميلة.اختتمت الشاعرة نصها بالثنائيات مابين:الابتعاد -المسافات، والاقتراب -يلملم ؛الانفتاح -الحرية -والاطباق -اغلقت،فضلا عن احداث التحولات الذاتية-الطفولة، وموضوعية الحدث.
استخدمت تكرار -اغلقت- للحفاظ على تسلسل الصورة الايقاعية،وابراز مدلولها النفسي الذي يحمل دلالة التأزم النفسي؛ وكذلك استخدامها اسلوب الالتفات،بانتقالها من المفرد-باب الى الجمع-ابواب،من اجل جذب انتباه المتلقي لحركةالصورة الشعرية وبلاغتها الجمالية .