ظلت أمريكا طوال الحروب السابقة تتخفى وراء إسرائيل، حتى أقنعتنا في مرحلة تعيسة ـ أو أقنعت فريقا منا ـ بأنها وسيط السلام، الذي يستطيع حل القضية الفلسطينية، ويعيد الحقوق لأصحابها، لكن الحرب الحالية على غزة كشفت المخبوء، وأظهرت أمريكا على حقيقتها، فهي شريك في الحرب مع إسرائيل كتفا بكتف، بل هي الطرف الأصيل، ولولاها ما بقيت إسرائيل، وما استمرت الحرب.
كان طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر الماضى عملية فدائية فريدة من نوعها، تقول لإسرائيل إن الشعب الفلسطيني لم يمت، ولن يسكت على الذل والمهانة والحصار والتجويع وتدنيس المقدسات، وقادر على أن يوجع إسرائيل، لكن أمريكا رأت في العملية “تهديدا وجوديا لبقاء إسرائيل”، وكان الأمر عجيبا، فإلى هذا الحد بلغت الحساسية تجاه وجود إسرائيل!! العملية الفدائية التي لم تستغرق بضع ساعات بأدوات بدائية وأسلحة تقليدية تهدد بقاء دولة نووية!! فماذا لو كان لفلسطين جيش وسلاح مكافئ وخطوط إمداد؟!
ولما هرعت أمريكا لنجدة الدولة الهشة اتضحت الحقيقة أكثر وأكثر، فقد فتحت لها خزائن الأموال بلا حساب، وفتحت أبواب المصانع لتصلها أحدث الأسلحة بكميات غير محدودة، وأرسلت وحداتها المتقدمة من المقاتلين المدربين مع الأساطيل والبوارج وحاملات الطائرات، وحثت حلفاءها ليفعلوا مثلها، لكن الأهم كان التأكيد بكل وضوح على أن أمريكا لديها التزام ديني بحماية إسرائيل، وأنها صهيونية أكثر من الصهاينة اليهود، وكرر رئيسها جو بايدن بلسان مبين: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب على أمريكا إنشاؤها من جديد”.
حينئذ أدركنا ـ أو أدرك بعضنا ـ أن وجود إسرائيل واستمرارها ضرورة أمريكية غربية، قبل أن يكون ضرورة يهودية، وأن المواجهة الحقيقية ليست مع إسرائيل، وإنما مع أمريكا والغرب، وما إسرائيل إلا رأس حربة من السهل أن تنكسر يوما ما مهما طال الزمن، لكن أمريكا وحلفاءها هم الطرف الأصيل في حرب العصور كلها، حرب الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا قارنا ما قدمه هؤلاء من دعم لإسرائيل بما قدموه إلى حليفتهم القريبة (أوكرانيا) لوعينا المعنى والمغزى.
أمريكا إذن هي عقدة القضية الفلسطينية وليست إسرائيل، هي التي تحول دون صدور قرار من مجلس الأمن بوقف العدوان، أو حتى إدانة إسرائيل، وهي التى تضغط بنفوذها على الدول لشيطنة المقاومة الفلسطينية المشروعة وحصارها ودمغها بالإرهاب، ومنع أية مساعدة أو مساندة لها، وهي التي تمارس غطرسة القوة لمنع تدخل أية دولة أخرى في الصراع، وليكون الحل بيدها وحدها.
وفي الأسبوع الماضي قدمت أمريكا إلى مجلس الأمن عرضا مخادعا لوقف إطلاق النار، هدفه الأول الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين دون شروط، ثم بعد ذلك إيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، مائة أسير صهيوني أو أكثر قليلا أهم من 30 ألف فلسطينى قتلوا وآلاف آخرين جرحوا وشردوا ودمرت منازلهم، وذكرت الإدارة الأمريكية أن إسرائيل تفاوضت بحسن نية فى هذا العرض، والكرة الآن عند حماس، لكن مع من تفاوضت إسرائيل بحسن النية؟ المؤكد أنها تفاوضت مع أمريكا، كأن جورج الخامس يفاوض جورج ألخامس، فاللعبة مكشوفة، وهدفها إرغام المقاومة على قبول العرض بشروطه المجحفة، التى تحقق لإسرائيل ما لم يحققه جيش الاحتلال في ميادين المعركة على مدى الشهور الخمسة الماضية.
يريد الرئيس بايدن أن يظهر أمام العالم وأمام الرأي العام الأمريكي كرجل سلام يعمل على وقف الحرب وإرسال مساعدات إلى غزة، ثم حين يرسل المساعدات الهزيلة بالإسقاط الجوي يتضح أن بعضها يقع بالخطأ في البحر، وبعضها يذهب بالخطأ إلى إسرائيل، على طريقة المساعدات التى كانت توجه إلى مسلمى سربرنيتشا المحاصرين فى البوسنة والهرسك خلال الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي وتذهب بالخطأ إلى الصرب القتلة، وما تبقى من مساعدات يكون طعما لقتل أهل غزة الجائعين، حيث ترصد إسرائيل اللحظة التى يتجمعون فيها حول المساعدات فتفتح عليهم نيرانها بدم بارد، وتمر الجريمة في صمت مخز.
ورغم ذلك يصر بايدن على أن إيصال المساعدات إلى غزة لابد أن يكون بالتنسيق مع إسرائيل، وهذه جريمة أخرى، لأن إسرائيل ستقوم بسرقة المساعدات، وإذا سمحت بأن يصل منها شيء للفلسطينيين فسوف يصل قطرة قطرة، لتجويعهم إلى أقصى مدى، ولو كان الرجل صادقا في تعاطفه لجعل التنسيق مع الأمم المتحدة، أو وكالة غوث اللاجئين، أو الجمعيات الخيرية في غزة، لكنه فى الحقيقة يريد أن يساعد إسرائيل فى تجويع الشعب الفلسطينى.
ويقول بايدن إنه أعطى أوامره للجيش الأمريكي لبناء ميناء مؤقت في غزة، ودراسة أفضل الخيارات لإنشاء البنية التحتية اللازمة لذلك، وهي أوامر قاتل يريد أن يغسل يديه من دم ضحاياه، وسوف يكون على الفلسطينيين الذين يموتون بالمئات كل يوم بالسلاح الأمريكى، وبالجوع الذى يفرضه النفوذ الأمريكى، أن ينتظروا دراسة الخيارات على مهل، وبناء الميناء على مهل، فالمشروع يتطلب عدة أسابيع وفق ما ذكره مسئولون فى الإدارة الأمريكية، لكنه فى المقابل يريد الإفراج عن عشرات الأسرى الصهاينة فورا، ودون شروط!!
إن من مصائب زماننا أن تكون أمريكا هي العقدة وهي الحل، وأن تتعلق العيون بما يصدر عنها رغم كل مظالمها، ففيها تخرج التظاهرات الشعبية المنددة بالعدوان، والمطالبة بوقف إطلاق النار، وتنطلق الدعوات من الكونجرس لمنع الأسلحة عن إسرائيل فورا، وفيها صوتت عدة ولايات لصالح إبقاف الحرب، وفى كبريات صحفها تنشر مقالات تخالف مواقفها الرسمية، وأشعل طيار مقاتل النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية اعتراضا على تجويع الفلسطينيين وقتلهم، وخرج زملاؤه بالعشرات للتظاهر فى نفس المكان الذي مات فيه، للتذكير بقضيته.