نحن الآن في فبراير 1986م.
احتجت إلى أكثر من دقيقة حتى أصدق أنني أجلس وجها لوجه مع الرجل الذي صادق طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد عبدالوهاب وعبد الحليم حافظ والذي اختارته أم كلثوم وهو لايزال شابا في العشرينات كي يكتب ” أم كلثوم التي لايعرفها أحد ” وهو أهم الكتب التي صدرت عنها.
لم يكن الأمر سهلا فأنا الصحفي المبتدئ أجلس الآن مع أهم صحفي في مصر وصاحب أشيك جملة صحفية على الإطلاق والرجل الذي صنعت له موهبته أعداء
بقدر ما قربت منه أصدقاء هم صفوة المجتمع المصري والعربي.
أنا الآن في حضرة مؤلف كتب “متمردون لوجه الله” و”بالعربي الجريح” و”من وجع القلب” و”عليكم السلام” و”ممنوع من التداول” و”أفكار ضد الرصاص” و”أرجوك لاتفهمني بسرعة”.
دخلت إلى مكتب “الأستاذ” بعد أن استلم رئاسة تحرير صحيفة الأحرار بأيام قليلة في تجربة لو اكتملت لغيرت وجه الصحافة العربية وغيرت – بالتبعية – أيضا مسار حياتي المهنية والشخصية.
قال الأستاذ : ما عندك ؟
قلت : عندي تحقيق صحفي عن مراكز التدريب المهني والمخالفات التي تجري بها.
بعدها بدأت في الإشادة بالتحقيق : موضوع كويس قوي يا أستاذ محمود .. بذلت فيه جهدا كبيرا .. ياريت تشوف الفقرة الأولى .. هتعجبك قوي….. .
قال مقاطعا : نحن لانبيع فاكهة .. القطعة دي ممتازة .. والقطعة دي من وش القفص .. أنت تسلم الموضوع وتنتهي علاقتك به .. الموضوع الجيد يتحدث عن
نفسه وعندما ينشر سيتحدث عنه الناس والناس لا يهمها كم سهرت ولا يعنيها كم تعبت ولا يشغلها كم تألمت وأنت تعد الموضوع ولكن يهمها المنتج النهائي.
قلت : شكرا .. شكرا .. وأنا أرجع بظهري حتى خرجت من باب المكتب.
كان هذا الدرس الأول الذي تعلمته بعد شهور من بداية العمل الصحفي : الموضوع الجيد يتحدث عن نفسه ولا يحتاج إلى ” بروباجاندا ” من المحرر الذي أعده والقارئ لايعنيه كم تعبت وكم تعب باقي المحررين ولكن يعنيه المنتج الذي بين يديه.
أما الدرس الثاني فكان بعد أن قرأت نفس الموضوع منشورا بالصحيفة فإذا بي أمام موضوع أفضل كثيرا من الذي قمت بإعداده .. صحيح أن من راجعه حافظ على المعلومات والأرقام والحقائق ولكنه تجاوز المنظور الذي كتبت به الموضوع إلى منظور أكثر رحابة وبلغة تهمس في أذن القارئ ولا تصرخ في وجهه، وكان هذا هو الدرس الثاني أن وجود ديسك مان جيد يضيف إلى الصحيفة ويثري موضوعاتها.
الدرس الثالث : قررنا أن نقيم حفلا للأستاذ عوض.. لا أتذكر المناسبة ..ولكننا كنا نختلق المناسبات كي نقترب منه..أتذكر جيدا أننا أحضرنا تورتة كبيرة وتحلقنا حولها وذهب أكبرنا سنا ليصطحبه من مكتبه إلى صالة التحرير حيث موقع الحفل.
وبدلا من أن يشكرنا الأستاذ محمود كما توقعنا نظر إلينا – نحن المحررين – قائلا : ماشاء الله .. عددكم أكثر من عدد القراء.
ورغم أن أرقام توزيع الصحيفة كانت قد تضاعفت عدة أضعاف إلا أنه أراد أن يخبرنا أننا لم نحقق شيئا وأن أمامنا الكثير والكثير من العمل حتى نقول إننا أنجزنا المهمة وربما أراد أيضا أن يقول أن الاقتراب منه لن يكون بالحفلات والتكريمات ولكن بالموهبة والمهارة والخبطات الصحفية الجيدة.
الدرس الرابع كان الأستاذ محمود يعقد اجتماع تحرير في العاشرة من صباح يوم الاثنين وذلك عقب صدور الصحيفة.
كانت اجتماعاته عادة قصيرة فهو يعرف جيدا ماذا يريد وكيف ينقل إلينا مايريده في كلمات قصيرة.
في نهاية هذا الاجتماع الذي حضره صديقه الكاتب المسرحي علي سالم قال الأستاذ محمود : حد عنده أي مشكلة أو استفسار ؟
قلت : أنا.
قال : ايه مشكلتك ؟
قلت : الأستاذ فلان وأشرت إلى يده اليمنى في الصحيفة وكان صحفيا كبيرا .. لقد سلمته ثلاثة مواضيع ولا أعرف عنها شيئا؟
قال : ما عناوينها ؟
قلت عناوينها وكان الثالث حوارا صحفيا مع إبراهيم يوسف.
قال : من إبراهيم يوسف هذا “كان الأستاذ محمود صحفيا شاملا في السياسة والثقافة والسينما إلا في الرياضة” ؟
رد أحد المتعاطفين معي من المحررين : أشهر لاعب كرة في مصر. وأضاف متعاطف آخر : حاجة كده زي الخطيب.
نظر إلى مساعده نظرة متسائلة عن مصير هذه المواضيع ولماذا لم تصل إليه : تلعثم الرجل وتخبط في الرد بين لم أقرأ هذه المواضيع بعد وبين إنها مواضيع عادية.
فرد الأستاذ بحسم : هي مواضيع عادية ولا لم تقرأها .. وأضاف بحدة : خلاص .. انتهى الكلام .. المواضيع دي تكون على مكتبي بعد الاجتماع مباشرة لأقراها بنفسي وتعلمت الدرس جيدا : كيف يكون القائد حاسما وكيف لا يضع بينه وبين صغار المحررين أي حواجز.
الدرس الخامس اتفق الأستاذ محمود عوض مع قيادات الحزب على أنه سيخصص لهم عمودين في الصفحة الثانية من الصحيفة أما باقي الصحيفة فلا علاقة لهم بها وأن من يريده من الحزب أيا كان موقعه ينزل إلى مكتبه أما هو فلن يذهب إلى مكتب أحد وكان هذا هو الدرس الخامس أن يكون الصحفي معتزا بنفسه ومدركا لقيمته وأهمية دوره ورسالته.
الدرس السادس في آخر مقالاته بالصحيفة وبعد أن شعر بتملل قيادات الحزب من الشروط التي وضعها وكانت شروطا قاسية بالفعل فقال- وقد أحس باقتراب التجربة من النهاية – : ادعوا معي أن تتحمل صحيفة الأحرار نجاحها.
وبالفعل لم تتحمل الصحيفة نجاحها وتمت إقالة الأستاذ محمود عوض.
ومن يومها تعلمت الدرس جيدا وهو أن تحمل النجاح خصوصا إذا كان سريعا واستثنائيا أصعب بكثير من تحمل الفشل.