نحن الماكرون الماهرون .. كل واحد فينا يتصور أنه يخطط بفطانة .. وذكاء .. نحن دون أن ندرى نكشف بعضنا ونكشف أنفسنا من خلال مآزق الشطرنج المتوالية التى تزجنا فيها المقادير ونفتضح عبر هذا الفعل المتسلسل الذى اسمه الدنيا حتى لا تبقى فينا باقية . . ثم نموت وقد ظهر المكتوم . والذين يدركون تمام الإدراك لب القضية تصيبهم الرجفة من الرأس إلى القدم .. إن ما يجرى فى هذه الدنيا ليس عبثاً.. بل إن الأمر جاد بصورة مخيفة . لماذا وصف الله نفسه بالمكر ؟! وقال : (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) . وما الفرق بين مكر الله ومكرنا .. وكيف يمكر الله . . الله يمكر لإظهار الحقيقة . . ونحن نمكر لإخفائها . . ولهذا كان مكر الله خيراً كله ومكرنا سوءاً كله . مكر الله نور ومكرنا ظلمة . مكر الله عدل ومكرنا ظلم .
ولمن يتصور أن المكر الإلهى ينافى العدل .. نقول بل هو عين العدل .. فالله لا يمكر إلا بماكر . ( يمكرون ويمكر الله ) . ( يكيدون كيداً وأكيد كيداً ) . وحقيقة الأمر أن الله يسلط على الإنسان الذى يخفى شيئاً فى نفسه إنساناً آخر يخفى شيئاً فى نفسه . . وهذا منتهى العدل .. بل نحن أمام ميزان مضبوط تماماً .. ففى كلتا الكفتين نفس ماكرة تخفى شيئاً . ثم أنه من تماكر الاثنين بعضهما ببعض تظهر الحقيقة .. وهذه هى الدنيا . ولهذا خلقها . لإحقاق الحق . ما خلق السموات والأرض إلا بالحق . وهذا عين الخير فى أمر خلق الدنيا رغم ما يبدو من دم وجريمة وشر وبشاعة .. فالعبرة بالخواتيم .. وشرور الدنيا زائلة مهما استحكمت .. ولا أهمية لشر زائل مادام سوف يكشف لنا فى الختام عن خير باق .. ولو فكر الواحد منا فى الأمر تفكيراً هادئاً ولو تأمل ما يجرى فى الدنيا حوله فى عمق لأدرك أن الأمر جاد رغم ما يبدو فى الظاهر من هزل وعبث فكل شىء محسوب وكل شىء يجرى بموازين دقيقة . والذى لا يخاف الحق ولا يعرف الحق .. فإنه ما خاف وما عرف .. ولن يغنيه بعد ذلك أى علم ولو حصل علوم الأولين والآخرين . ولكن نحن فى عصر مادى .. وذكر الجنة والسموات أمر يبتسم له أهل الدنيا وسادتها الماكرون ويضحكون فيه على سذاجتنا ولا أحد يهتم فى هذه الدنيا إلا بالربح العاجل ..ولهذا اقتضى العدل أن يتعامل الله مع هؤلاء الماكرين .. بالمكر الإلهى .. ( ومكروا مكراً ومكرنا مكراً ) وما هم فيه من رخاء وغنى وعلو .. هو استدراج وليس علواً . ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) . أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون ) . ( ومكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) . وصاحبنا الذكى الذى لا تنفد له حجج إذا رآنا نحكم حول عنقه حلقات المنطق وإذا شعر بمنطقنا يوشك أن يسكته ما يلبث أن يصرخ : وماذا أساوى أنا إلى جوار عظمة الله .. ولماذا يعذبنى الله وأنا لا أساوى شيئاً .. وهل أنا إلا ذرة تافهة .. وهو تواضع كاذب وانكسار مفتعل لأنه لو شعر حقاً بعظمة ربه وبتفاهة نفسه لخر ساجداً باكياً أمام هذه العظمة ولشعر بالخشوع أمام تلك الهيبة .. إنما هى الملاحاة والجدل . ونرد على مكره فنقول : لست تافهاً عند ربك ولا هين الشأن فقد نفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وسخر لك أكوانه كلها وأعطاك التسرمد والخلود ومنحك الحرية .. إن شئت كنت ربانياً .. وإن شئت كنت شيطانياً . فأين هوان الشأن من هذا كله . بل هو تحايل الماكرين حينما يصبح ظهرهم إلى الحائط وتقطع بهم الحجج فيتمسكون ويتماوتون ويتخافتون ويتهامسون .. هل نحن إلا ذباب يارب . وهل للتراب أن يتطاول .. وهل للطين عندك شأن يساوى أن تحفل به وتعذبه ولوأحس الواحد منهم بالفعل أنه تراب ولو انطلقت أعماله وأقواله من هذا الإحساس لكان له مع الله حال غير الحال وشأن غير الشأن .