الجزء: 1/3
مباشرة بعد طردي من الإعدادية “إعدادية بن خلدون” للتعليم العمومي بمدينة القنيطرة، نتيجة لفشلي الدراسي الذريع، وتعمدي المستمر في الغياب الغير المبرر، وجدت نفسي يومها خارج دائرة التربية والتعليم ووسط بيئة التشرد والانحراف المفضي طريقهما لا محالة إلى عالمي السرقة والإجرام، هكذا شعرت بأنني طفل سيء الحظ، طفل منبوذ عاطفيا، مهمش أسريا، تائه مجتمعيا، مما جعلني أضع على نفسي عدة أسئلة لا يمكن حل شفرتها إلا الراسخون في العلم من ذوي الألباب، كون حياتي يومها أصبحت عبارة عن روتين يومي جد قاتل، فلا عقل يفكر، ولا فكر يتدبر، ولا قلب يشعر، وحدها الأعين هي من كانت تفيض بالدمع الساخن في تعبير مشاعري يعزي فيه الإنسان نفسه ليهون عليها نكبات الدهر ومآسي الزمان، ذلك الزمان الذي كان يمر مرور الأيام، وينجلي بين الأنام، سارقا مني أحلامي الشبابية، وآمالي المستقبلية.
هكذا، عشت فترات صعبة للغاية أيام أولى مراحل شبابي سيما منها “مرحلة مراهقتي”، التي تقتضي الاتصاف بنوع من الاتزان النفسي، والتوازن العقلي والفكري، وسكينة القلب، لكني كنت نقيض هذا كله، فكيف لي بأن أكون متزنا نفسيا وأنا بداخلي بركان من الغضب، فكم من جبل خامد وبداخله بركان، وكيف لي كذلك أن أكون متزنا عقليا وفكريا ولا راحة لعقلي من كثرة مشاكلي، ولا استقرار لفكري من هول مصائبي، فبالأحرى أن تكون هناك سكينة لقلبي المجروح عاطفيا والمكسور مشاعريا، وبهذا سلمت أمري لله خالقي، ورضيت بسوء حالي، رغم ما كنت أعيشه يومئذ من عزلة اجتماعية قسرية، والانغماس في بيئة مستنقع انحراف ورذيلة طوعية، كون هذه البيئة الأخيرة هي وحدها من وجدت فيها ضالتي وراحتي، فلا أحد يراقبك، ولا أحد يعاتبك، ولا أحد ينهاك أو يؤيدك، عش كما أنت منحرفا أو مجرما أو حتى سفاحا فلكي يومئذ شأن يغنيه، من أراد الصلاح فقد اختاره سبيه والله الموفق، ومن اختار سوء الأخلاق فحدث ولا حرج هناك شياطين الإنس محيطون بنا صباح مساء، هم وحدهم من كانوا متطوعين وبشكل مجاني لتعليمنا كيفية السرقة، وكيفية اعتراض سبيل المارة من الناس الأبرياء، وكيفية التعوذ على الضرب والجرح بواسطة السلاح الأبيض دونما خوف أو تردد نتيجة لما قد نتحلى به من قساوة القلب الجسدي، وانعدام الضمير الإنساني، اللذين كان يتوجب على من سيتصف بهكذا سوك إجرامي أكثر مما هو انحرافي أن يتعاطى لشرب الخمر وإن تعذر ذلك فمشروب كحول الحريق متوفر في جميع الدكاكين التجارية وبأبخس الأثمان النقذية، وإذا ما شعر العازم على اقتحام عالم الإجرام بأن حالة التردد قد بدأن تتملكه فما عليه حينها سوى أن يغيب روحه بشكل كامل عن هذا العالم الوجودي وذلك من خلال ابتلاعه لأكثر من خمسة أقراص للهلوسة “القرقوبي” حينها سيصبح وحشا كاسرا ومجرما عتيا وخطيرا لا يرحم أبدا كل من يقف في طريقه حتى لو كانت أمه أو أباه والله على ما أقول شهيد.
بالنسبة لي شخصيا، فقد كنت خلالها من بين فئة من الشبان المنحرفين لكن درجة انحرافي وقتئذ لم ترتق لمرتبة مجرم سهل أو خطير، كما أني كنت رغم جروحي التقسية وآلامي الحياتي، شابا معتدلا شيئا ما، أي نعم تعاطيت لتدخين السجائر وليس لوقت طويل، وعاقرت شرب كحول الحريق لأمد قصير، غير أني كنت ممتنعا بشكل كامل عن التعاطي أو إدمان أقراص الهلوسة تلك “القرقوبي” لأني كنت على يقين تام بأن سبيل خلاصي من عذابي اليومي هذا هو صحة عقلي الذي بدأ يومئذ يوخزني بشكل ظرفي، حينها شعرت حقا بأن ضميري الإنساني بدأ يصحو شيئا فشيئا، خاصة لما كنت أرى أقراني منتشرين هنا وهناك كلهم ثملين خمرا أو مغيبين عقلا نتيجة ما أدمنوه من مخدرات، إذ كنت أركن بجانبهم وأشرع في دراسة حالاتهم التي تدمي القلوب إحساسا، وترثي المشاعر تبصرا في حالهم ومآلهم، لقد كانوا زمرة من الشباب اليافعين الذين حكمت عليهم ظروفهم الأسرية بأن يكونوا على هذا الحال، فيما مجتمعهم غير مكترث بمصيرهم كون الحكم عليهم صادر وبشكل مسبق بلا رحمة ولا شفقة، فمن مات منهم علية ألف رحمة وسلام ولا يتطلب الأمر سوى نقله على متن سيارة نقل الأموات، والاسراع بدفنه داخل مقبرة الأجداث والرفاة، وأما من تجرأ ممن لازالوا على قيد الحياة ومارس الإجرام فأبواب السجن لا تكون مؤصد أو مغلقة في وجه المجرمين والمنحرفين، بل دائما هل من مزيد أيام زمن الماضي من سنوات الثمانينات، أما من تبقى من الزمرة المذكورة فلا سبيل لهما ولا خلاص مما هم فيه سوى البقاء مغيبين بالمخدرات والخمر وكحول الحريق إلى حين إصابتهم بالحمق أو الجنون أبد الآبدين، أو الانتفاضة على هذا الوضع الكارثي والمأساوي الخطير جدا، حيث يقول الكاتب التركي أورخان باموق: “المخدرات والخمور، في البداية تجعلك في حالة نشوة، ثم تجعلك تفقد عقلك، ثم تقتلك”.
وفي محاولة مني لإنفاذ نفسي من براثين الانحراف والإجرام، بدأت أسترجع نصائح معلمي الأول في حياتي الطفولية “الفقيه رحال الحبشي” ذلك الفقيه الحامل لكتاب الله عز وجل والذي طالما كان يوصيني وباقي أقراني بأن نكون من خيرة خلق الله من حيث التربية والأخلاق والسلوك، وبألا نسلك أي طريق اعوجاج بقية حياتنا العمرية لأن ذلك سيغضب الله كثيرا ومن يحلل به غضب الله فقد هوى في العالمين ولن يجد له منقذا إلى يوم الدين، هكذا أحسست بأن يدا خفية بدأت تسحبني من وسط بيئتي الضلالية تلك، لعلها يد غيبية رحمانية، لعلها دعوة صالحة شملتني بها أمي أو جدتي غيبا في دعاء أو صلاة وأنا لا أدري “دعاء عن ظهر الغيب”، المهم أني شعرت بأن عقلي بدأ يفكر، وقلبي بدأ ينبض بالإحساس السليم، فقلت في نفسي ما سبق أن قاله عبر التاريخ العالم الفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت: “أنا أفكر، إذا أنا موجود”.
… يتبع …