هناك أعلام في النقد الأدبي العربي عامة، والمصري خاصة، يمكن أن نطلق عليهم لقب “الناقد الفنان”، أو “الناقد الفيلسوف”، أو “فيلسوف النقد”، ويمكن للدارس أن يدرج ضمن هؤلاء في نقدنا المصري الحديث، كلا من: أحمد أمين، طه حسين، عبدالحميد يونس، محمد مندور، شكري عياد، عبدالعزيز الأهواني، مصطفى ناصف، محمد غنيمي هلال، عز الدين إسماعيل، عاطف جودة نصر، محمد زكي العشماوي، أحمد كمال زكي، عبدالمنعم تليمة، شاكر عبد الحميد، جابر عصفور …. إلخ، وذلك لاعتبارات عدة، منها:
أولا: أن أغلب، إن لم يكن جل هؤلاء، قد درس النقد وعلاقته بالفنون الإبداعية الأخرى، وأثر كل منها في الآخر، كعلاقة الأدب الشعبي بالأدب الحديث، وتأثيره عليه، وعلاقة فنون الأداء والحركة والموسيقى والغناء بالإبداع، شعرا ونثرا، وتأثيرها عليه، وعلاقة الأساطير بالأدب وتأثيرها عليه، وعلاقة علوم النفس والفلسفة والاجتماع بالأدب وتأثيرها عليه، وبالجملة: تداخل الأجناس الأدبية والفنية مع بعضها.
ثانيا: لم ينصب اهتمام هؤلاء الأعلام على دراسة الأدب والنقد والتأليف حولهما فحسب، بل إن معظمهم قد أفرد مؤلفات مستقلة عن الفنون الإبداعية الأخرى غير الأدب، وإن كان هدفها بيان تلاقحها مع الأدب، مثلما نجد ذلك الأمر لدى مؤلفات كل من: طه حسين في: فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، والأدب اليوناني، وترجمته كما في “أديب ملكا” لسوفوكليس، وكذا إبداعه كما في القصر المسحور، وأحلام شهرزاد. وقد درس عبدالحميد يونس وألف عن الأسطورة والفن الشعبي، والحكاية الشعبية، والسيرة الشعبية (الهلالية وتاريخ الأدب الشعبي)، والظاهر بيبرس في القصص الشعبي. وانتقل محمد مندور من دراسة “النقد المنهجي عند العرب” إلى دراسة المذاهب الأدبية الغربية وتأثيرها في الأدب العربي، ودرس الأصول الدرامية وتطورها على مدار العصور وبيان أثرها في نشأة المسرح العربي، كما درس مناهج النقد الأدبي وأبرز النقاد العرب وأثر احتكاكهم بالنقد الغربي، كا درس السياسة ومظاهر الديمقراطية كما تجلت في الغرب ونادى بتطبيقها في مصر والعالم العربي.
ولدى شكري عياد، يجد الدارس اهتماما مبكرا بدراسة فلسفة النقد نظريا وتطبيقيا، سواء في مؤلفاته أو ترجماته، ففي المؤلفات هناك : البطل في الأدب والأساطير، المذاهب النقدية عند العرب والغربيين، تجارب في الأدب والنقد، والقصة القصيرة في مصر ، والأدب في عالم متغير ، والرؤيا المقيدة: دراسات في التفسير الحضاري للأدب، اتجاهات البحث الأسلوبي، اللغة والإبداع: مبادئ علم الاسلوب العربي، وبين الفلسفة والنقد، بالإضافة إلى ترجماته لكتاب الشعر لأرسطو، وغيرها.
أما مصطفى ناصف، فقد كان أبرز من درس واستوعب التراث النقدي العربي، واطلع بشغف كبير على مذاهب ومدارس ومناهج وأعلام النقد الأوروبي، فأخرج لنا كتبها وأبحاثا ضمنها رؤى وأفكارا جديدة، مستندا إلى علوم اللغة والنفس وفلسفات التأويل، مما دفع بالحركة النقدية المصرية والعربية أشواطا متقدمة، قياسا بمن سبقه.
وقد أسهم الناقد والمفكر الكبير محمد غنيمي هلال إسهاما عظيما، تجلى في كتبه التي عرض فيها لتاريخ النقد الأدبي الحديث وأثر النقد الغربي في أدبنا الغربي، وكان له الفضل في التعقيد للأدب المقارن بموسوعية، وتطبيقاته غربيا وعربيا، وفي اللغات الأخرى كالفارسية، ما شكل فتحا عظيما للدراسة النقدية الأدبية المقارنة.
أما عز الدين إسماعيل، فوق أنه دارس وناقد للأدب ومترجم له، فقد كان له اهتمام كبير بالفنون الإبداعية الأخرى كالرسم والفن التشكيلي والموسيقى، وأثرها في الفكر والنقد والأدب العربي، وله في ذلك كتاب “الفن والإنسان”، بالإضافة إلى إبداعه شاعرا وكاتبا مسرحيا، ويمكن أن يرصد الدارس أثر ذلك في مؤلفاته النقدية الأخرى مثل : قضايا الإنسان في الأدب المسرحي، والتفسير النفسي للأدب، والشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والموضوعية.
ويأتي عاطف جودة نصر كأبرز مثل على الناقد الفيلسوف، حيث انصب اهتمامه على دراسة الخيال عند الفلاسفة المسلمين والغربيين، وأثر هذا الخيال ونجليه في الإبداع الأدبي، كما يبرز ذلك في كتابه “الخيال”، وأيضا في كتابه بالغ الأهمية، وهو “النص الشعري ومشكلات التفسير”، الذي يعد من الدراسات الأساسية في دراسة منهج التأويل، أو هرمونيطيقا النص، كما تجلى لدى أبرز أعلامه الغربيين، مثل جادامر ودلتاي وغيرهما، ويضاعف إلى ذلك أيضاً كتابه العمدة ” الرمز الشعري عند الصوفية”، ومن تلك المؤلفات يستنتج الدارس ذلك المنهج النقدي الفلسفي واضح المعالم لدى نصر.
ويلمس المرء هذه الفلسفة أيضا عند أحمد كمال زكي، فقد أفرد مؤلفا عن: الأساطير دراسة حضارية مقارنة، درس فيه الأسطورة وفلسفتها وأثرها في فنون فنون شعرا وقصة ومسرحا، وعلاقتها بالإبداع الأدبي الشعبي، والنقد الأدبي: أصوله واتجاهاته، وسيد درويش إمام الملحنين ونابغة الموسيقى، وأبو حامد الغزالي، وبريخت، والأدب المقارن، وغيرها.
أما شاكر عبدالحميد، فهو أكثر أبناء جيله إنتاجا وترجمة، فمنذ بدايات مؤلفاته وهو عاكف على دراسة علم نفس الإبداع، من منظور فلسفي نقدي، تنظيرا وتطبيقا على الشعر والقصة والرواية والمسرح العربي، وأهم أعمال في هذا المقام: الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة خاصة، و الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضي، والغريبة : المفهوم وتجلياته في الأدب، وعلم نفس الإبداع، والأدب والجنون، والحلم والرمز والأسطورة، والفكاهة والضحك، ومدخل إلى الدراسة النفسية للأدب.
وتأتي أعمال كل من محمد زكي العشماوي، وعبد المنعم تليمة، وجابر عصفور لتعرف على الوتر نفسه، فعلى حين دراس العشماوي قضايا النقد الأدبي المعاصر ومناهجه، و الخيال عند كولريدج، وعلاقة الفنون الزمانية والمكانية بالأدب، درس تليمة المذاهب الأدبية الحديثة، وعلم الجمال وأثره في الأدب (علم الجمال الأدبي)، و درس نظرية الأدب (مقدمة في نظرية الأدب)، نرى جابر عصفور وقد انطلق بدراسة الأدب والنظرية الأدبية إلى آفاق أرحب، عبر مؤلفاته وترجماته الرصينة، والتي تتجلى فيها جميعها التأكيد على فلسفة النوع، ولعل أبرز مؤلفاته في هذا الصدد: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، ومفهوم الشعر في التراث، والمرايا المتجاورة : دراسة في طه حسين، و تحديات الناقد المعاصر، وكلها بالإضافة إلى مؤلفاته الأخرى تنطلق من التأكيد على فلسفة النقد الأدبي، سواء عبر الاستئناس بالفلاسة العرب كالفارابي وابن رشد وغيرهما، أو الفلاسفة الغربيين، وقد جاءت ترجماته تعضيدا لهذا الاتجاه، ويمكن أن نذكر منها : النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، وعصر البنيوية، إديث كيرزويل، والماركسية والنقد، تيري ابجلتون، الخيال والأسلوب والحداثة (رولان بارت وغيره)… إلخ.