ما يحدث في الجامعات الأمريكية من حراك طلابي غير مسبوق رفضا للعدوان الإسرائيلي على غزة ودعما للقضية الفلسطينية هو آية من آيات الله، أراد سبحانه أن يجليها في وقت عز فيه الناصر وقل الداعمون، ليقول لنا وللمتخاذلين: “وما النصر إلا من عند الله”، وليذكرنا ويذكرهم بوعده تعالى: “إلا تنصروه فقد نصره الله”.
هذا جيل جديد من الشباب المتمرد على الأكاذيب الصهيونية التي تحاصر الشعب الأمريكي والشعوب الغربية كافة، لم تصرفه الاتهامات والتهديدات عن رؤية الحقيقة، فانطلق كالطوفان انطلاقة غير متوقعة، يهتف لنصرة المظلومين المستضعفين، كأنه استجابة ربانية لنداء الرجل الملثم على “أحرار العالم”، سبحانك ياربي، صدقت وقولك الحق: “وما يعلم جنود ربك إلا هو”.
ليس متصورا بالطبع أن يكون طوفان الجامعات الأمريكية هو الطريق لتحريرغزة وفلسطين، فلا يزايد المزايدون، لكن يكفي هذا الجيل أنه جاء في لحظة قدرية ليقلب الموازين ويغير المعادلات، ويكون عاملا مؤثرا في إعادة صياغة الرأي العام الأمريكي، لتصل عن طريقه الرسالة الفلسطينية إلى العالم، من حيث أريد خنق صوتها والتعتيم عليها، فمن كان يصدق أن تنتقل هتافات التأييد لغزة من شوارع المدن لتهز أرجاء أكثر من 40 جامعة أمريكية، وجامعات أخرى في فرنسا وبريطانيا واستراليا؟ ومن كان يصدق أن جيلا جديدا من الشباب، ليسوا عربا ولا مسلمين، يتسابقون لرفع علم فلسطين على جامعاتهم؟
هؤلاء الطلاب لم تروضهم أعباء الحياة على تجاهل نبض الضمائر، لكنهم خرجوا ليصححوا الصورة التي رسمها حكامهم المؤيدون أبدا لإسرائيل، يطالبون جامعاتهم بقطع صلاتها بأي شركات أو مؤسسات مرتبطة بدولة الاحتلال، ويدعون النخبة الحاكمة في بلادهم إلى وقف دعمها لإسرائيل، وإيقاف حرب الإبادة في غزة، وبين هذا وذاك يثقفون أنفسهم عن حكايا المظلومين من خارج الصندوق الرسمي، الذي يقبض على مفاتحه اللوبي الصهيوني منذ عقود طويلة، ويتحدثون لغة جديدة على المجتمعات الغربية وعلى جامعاتهم: “من الجنون أن مؤسسة تبشر بالأفكار النبيلة عن التعليم والتفاهم تتربح من الموت والأسلحة والتدمير والإبادة الجماعية”.
إن هذا الحراك المتنامي في الجامعات، هو الكابوس الأسوأ الذي لم تتحسب له آلة الدعاية الصهيونية، لذلك لم يكن غريبا أن يخرج بنيامين نتنياهو أمام الكاميرات والميكروفونات عقب انطلاق هذا الطوفان، بنفس الوجه الكالح الذاهل الذي خرج به عقب طوفان الأقصى، لينذر ويحذر، ويوزع اتهاماته على الطلاب وأساتذتهم، ومنهم يهود، ويرفع في وجوه الجميع فزاعته الممجوجة بمعاداة السامية وكراهية اليهود وممارسة العنف والإرهاب والعمالة لحماس والدعوة لإبادة إسرائيل، لكن السيناتور الأمريكي اليهودي بيرني ساندرز، تصدى للرد عليه: “إنكم تحاولون بهذه الاتهامات صرف الأنظار عن جرائمكم، فالتضامن مع أهل غزة ليس معاداة للسامية، وتسليط الأضواء على المجازر التى فتكت بـ 34 الف فلسطيني ليس إرهابا ولا تأييدا لحماس، فلا تستهزئوا بذكاء الشعب الأمريكي”.
لقد أحدث الحراك الطلابي صدمة عنيفة لإسرائيل، وللحكومات الموالية لها، وأضحى يشكل اختبارا صعبا لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التى تدعيها المجتمعات الغربية، ومما يؤسف له أن النخبة الأمريكية لا تزال حتى الآن تتخذ موقف العداء من هذا الحراك، وتتوعد المتظاهرين بالطرد والاعتقال، وبالفعل تم اعتقال ما يزيد على 600 طالب وأستاذ جامعي حتى كتابة هذه السطور.
ومن المفارقات العجيبة أن تنطلق شرارة هذا الطوفان من جامعة كولومبيا وبعض الجامعات المشابهة، التى تعرف بجامعات النخبة، وهذا في حد ذاته ما يشعل قلق إسرائيل وحلفائها، فهذه الجامعات تضم أبناء الصفوة، الذين يتقلدون المناصب المهمة مستقبلا، ما يعني أنهم سيصبحون صناع قرار، ومن ثم لن يكون هناك تأييد مجاني (شيك على بياض) لإسرائيل.
ورغم قيام رئيسة جامعة كولومبيا ـ المصرية الأصل ـ بطلب الأمن لتفريق المتظاهرين، فإن مساءلتها أمام الكونجرس الأمريكي كانت تشكل اتهاما لها بالتقصير، والحوار الذي أجرى معها في مجلس النواب كان يحمل دلالات أعمق من مجرد المساءلة، ويكشف الهوة الساحقة بين مواقف الطلاب ومواقف النخبة، فقد توجه إليها النائب ريك آلن باللوم قائلا: “كان العقد الذي أبرمه الله مع إبراهيم واضحا: إذا باركت إسرائيل أباركك، وإذا لعنت إسرائيل ألعنك، ألا تعرفين هذا؟ وهي ترد في استسلام: “لقد عرفته الآن بعد شرحكم”، فيبادرها في استخفاف ساذج: “هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟ فتقول في انكسار: “بالتأكيد لا”.
وبصرف النظرعن الخلط المريب في كلام الرجل، الذي ينم عن جهل ديني أسوأ من الجهل السياسي، فإن إسرائيل الذي هو يعقوب حفيد إيراهيم من ابنه اسحاق عليهم السلام، ليس هو بالتأكيد دولة إسرائيل التي تغتصب بلدا وتبيد شعبا، ويحكمها مجموعة من قطاع الطرق، ثم كيف يلعن إبراهيم حفيده؟
وبنفس الروح المتعصبة يذهب رئيس مجلس النواب مايكل جونسون إلى جامعة كولومبيا لا ليعلن ضمان حرية التعبير، بل ليطالب بمزيد من قمع الطلاب مهددا: “لا يمكننا السماح لهذا النوع من الكراهية ومعاداة السامية بالازدهار في الجامعات الأمريكية، يجب القبض على من يقفون وراء هذا العنف، أنا هنا لأنضم إلى زملائي وأدعو رئيسة الجامعة إلى الاستقالة إذا لم تتمكن من إحلال النظام فورا، وبوصفي رئيسا لمجلس النواب فإنني أتعهد بأن الكونجرس لن يصمت بينما يركض الطلاب اليهود للنجاة بحياتهم”.
لا أحد يزعم كيف سينتهي الحراك الطلابي الحالي، لكن لنتذكر أن حركة احتجاجات الطلاب الأمريكيين في سبعينيات القرن الماضي نجحت في إيقاف حرب بلادهم على فيتنام، ولنتذكر أيضا أن موجات من احتجاجات الحرم الجامعي أحدثت تغييرات اجتماعية هائلة في أنحاء العالم شرقا وغربا، ومن يدري ربما تكون انتفاضات الجامعات الأمريكية بوابة لتجديد الثقافة السياسية في الولايات المتحدة، التي تراهن على أن قوتها تكمن في قدرتها على التجدد.