كأنه امبارح، منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً عندما كنت فى مهمة صحفية بواشنطن،كانت الساعة الخامسة صباحاً بواشنطن،الثانية عشرة ظهراً بالقاهرة وكنت أغط فى نوم عميق عندما دق جرس تليفون غرفتى بالفندق.
كان على الطرف الآخر صديقى الجميل محمود طعيمة بارك الله فى عمره مدير مكتب رئيس التحرير فى ذلك الوقت ألا وهو جلال دويدار وما أدراك من هو جلال دويدار رحمه الله.ورغم قلقى من هذا الاتصال فى ذلك الوقت إلا أننى كدت أرى ابتسامة محمود الجميلة التى لم تكن تفارقه وهو يقول لي: الريس عايزك ضروري.
مرت ثوانٍ قليلة قرأت فيها كل ما أحفظه من القرآن والتعاويذ والأوراد قبل أن يأتينى صوت جلال دويدار شاخطاً كعادته:إنت لسه نايم؟! فقلت متلعثماً: أيوه يا ريس الساعة هنا لسه خمسة الصبح! فرد بتلقائية:مانا عارف إنها خمسة الصبح بس الأمريكان بيصحوا بدري،فقلت له: بس أنا مش أمريكانى يا ريس ثم هصحى خمسة الصبح اعمل إيه؟! فقال بلهجته الآمرة التى لم تكن تقبل الجدال:بلاش لماضة و اتفضل سيب السرير.ثم لم يترك لى أى فرصة لمزيد من الجدال فأردف قائلاً: فيه مصرية عندك اتعينت فى منصب رفيع فى البنك الدولى اسمها نعمت شفيق، عايزك تعملنا معاها حوار.
طار النوم من عينى ومرت حوالى ساعة وأنا فى السرير لا أقوى على الحركة ولا أدرى كيف أتصرف فى هذه الورطة، وبينما أنا سارح فى أفكارى إذا بتليفون الغرفة يدق مرة أخرى وفى هذه المرة لم يكن جلال دويدار ولكن كانت الصديقة حنان جلال دويدار التى كانت فى ذلك الوقت تعمل كمتدربة فى البنك الدولي،قلت لها ضاحكاً:أنا لسه مخضوض لأن الأستاذ جلال يادوبك قافل الخط معايا،فضحكت قائلة: ما هو أنا بكلمك علشان كده،بابا صحانى زى ما عمل معاك كده وقالى أحاول أساعدك،ابتسمت لأول مرة فى ذلك الصباح وقلت بصوت عال:يا بركة دعا الوالدين، ياما انت كريم يارب.
طبعا لم أذق طعم النوم مرة أخرى فى ذلك الصباح وبدأت فى إعداد الأسئلة بعد أن فهمت من حنان طبيعة عمل تلك المصرية النابغة وفى تمام الحادية عشرة كنت أجلس أمامها فى مكتبها وبدأت طرح أسئلتى باللغة الإنجليزية لكنها أوقفتنى طالبة أن يكون الحوار باللغة العربية التى تعشقها وتعتز بها. ورغم أن الحوار تطرق إلى طبيعة عملها والملفات الموكلة إليها إلا أننى حرصت على رصد مشاعرها تجاه مصر والمنطقة العربية وقضاياها،وأتذكر أن العنوان الرئيسى الذى كتبته لذلك الحوار هى تلك العبارة البليغة التى وردت على لسانها: فخورة بمصريتى والعروبة فى دمي.
تذكرت تلك الحكاية وأنا أتابع تلك الضجة التى أحدثتها نعمت شفيق التى غيرت اسمها من نعمت إلى «مينوش» بما يحمله هذا التغيير من تحول كبير فى الشخصية،فلم يكن مستغرباً بعد ذلك أن مينوش التى ارتقت فى المناصب حتى وصلت لمنصب رئيس جامعة كولومبيا وتراجعت فى العروبة إلى درجة أنها تناهض مظاهرات الطلبة داخل الجامعة التى تندد بالعدوان الغاشم الذى تشنه قوات الاحتلال ضد الأشقاء الفلسطينيين.بل وصل بها الحال استدعاء البوليس الذى اعتقل عشرات من طلاب الجامعة مما أثار موجة من الغضب العارم ضد مينوش حاليا نعمت سابقاً.
أشعر بأسى شديد تجاه أصحاب الجذور الشرقية العربية الذين يتعصبون لقوميتهم الجديدة أكثر من أصحاب البلاد الأصليين وكأنهم يريدون نفى تهمة الولاء لبلادهم الأصلية مما يدفعهم إلى التشدد فى مواقفهم العنصرية لإثبات ولائهم لدرجة أن تتحول إنسانة مصرية الأصل كنا نعدها نموذجا للكفاح والنجاح فإذا بها تخلع جلباب نعمت ابنة المهاجر البسيط لتعيش فى جلباب مينوش «بنت» سلطح باشا!.