لم أكن أدرك مدى أهمية مدير التوزيع في الصحافة إلا بعد أن تعرفت عن قرب على الموهوب إبراهيم العقباوي، مدير عام التوزيع. كان يدهشني بغزارة معلوماته ومعارفه الواسعة والضرورية لهذا العمل المهم للغاية، فالتوزيع هو الهدف ومقياس نجاح أي جريدة، وبدون توزيع مرتفع، لا توجد إعلانات بأسعار عالية، ولا اطلاع الجمهور على ما يكتبه الصحفيون والكتاب. وبالتالي، هو عصب رئيسي في العمل الصحفي، وليس مجرد عمل إداري عادي كما يتصور كثيرون. ولهذا، كنت أراه يسرع لقراءة الصفحات قبل طباعتها ليتعرف على محتواها، وفسر لي أن لذلك علاقة قوية بالتوزيع، فالكميات لا تتحدد بطريقة روتينية أو ثابتة لكل المحافظات والمدن وحتى القرى، فعندما أجد موضوعًا ملفتًا عن إحدى المحافظات، أوجه إدارة التوزيع بزيادة الكميات في تلك المنطقة.
كان ينكب على مراجعة أرقام الكميات المرتجعة، ويقارنها بأرقام سابقة، ويحلل الأسباب التي أدت إلى انخفاض التوزيع هنا، أو زيادته هناك، بل كان يتدخل بطريقة لطيفة ومحببة، فيلفت النظر إلى نقاط مهمة في اهتمامات الجمهور، ويتحدث أحيانًا معي عن أهمية الصورة وعدم استخدام أحجام صغيرة للخطوط، والتقليل من الموضوعات الطويلة، مرددًا أن الخلاصة فيما قل ودل، ومؤكدًا دومًا أن بساطة التعبير لا تتعارض مع وقار الجريدة.
كانت ملاحظاته وأفكاره غاية في الأهمية، فقد كان حلقة الوصل الفعلية بين القراء وإدارة التحرير، فهو مقياس وترمومتر حقيقي لما يريده القراء، وكان دائم الاتصال بالموزعين، ليس فقط ليبدي ملاحظاته على عملهم، بل كان يهتم بشؤونهم وشكاواهم وآرائهم، ويرى أنهم رجع الصدى الحقيقي للمحتوى الصحفي، فليسوا مجرد باعة صحف، بل هم حلقات الاتصال بين القراء وما يكتبه الصحفيون وكبار الكتاب، وكانوا يدلون بآراء غاية في الأهمية، ويسألون عن الكاتب الفلاني إذا تغيب مقاله، أو عن الصحفي الفلاني.
كان يذهلني بإلمامه الواسع بالكثير من المجالات، وكان أول من أنشأ بوابة إلكترونية للتوزيع لتكون منصة مهمة لتوزيع كل الصحف، ورغم قلة الإمكانيات، تمكن من إنجازها وتشغيلها، واستمر يعمل على تطويرها حتى آخر لحظة في حياته، وأدرك أن التسويق الإلكتروني سيكون بالأهمية التي يمكن أن تدر عوائد كبيرة على المؤسسة وتقدم خدمة سهلة للقراء في كل مكان، فكان خبيرًا في التسويق والتوزيع والصحافة، أما عن الجانب الإنساني، فكان الأكثر إدهاشًا، فأجده يطمئن على العمال وأحوالهم واحتياجاتهم، ويسأل عن الموزعين وشكاواهم، ويرسل لبعضهم بعض المال في مناسبات كثيرة مثل المرض أو زواج بنت أو غير ذلك، وسر الدهشة أنه على علاقة قوية وإنسانية بتلك الشبكة الواسعة من الموزعين وباعة الصحف، حتى أنه خلال تفشي جائحة كورونا تواصل معي لتوفير كميات من الكمامات والكحول وأدوات التعقيم من خلال عدد من الجهات الداعمة، ليقوم بدوره ويرسلها لهم ، ويتابع من مرض منهم، ويعتبرهم جزءًا من المؤسسة، رغم أنهم يوزعون مختلف الصحف المنافسة.
وعندما توليت رئاسة تحرير الأهرام، كنت أسعى دائمًا للاستفادة من خبراته ومعارفه وملاحظاته وموهبته، وكان لا يجاريه أحد في تواضعه وأخلاقه النبيلة وترفعه عن أي إساءة، لقد فقدت الصحافة المصرية تلك الموهبة والشخصية النبيلة، وخسرت صديقًا وزميلًا منحني الكثير مثلما منح مؤسسة الأهرام كل خبرته وتفانيه في العمل. رحم الله إبراهيم العقباوي.