هذه الملحمة الخالدة التي صدحت بها أم كلثوم والتي صنعها الكبيران عبد الوهاب محمد شاعرا ومحمد الموجي ملحنا ستظل خارطة طريق مضيئة على شكل أغنية لكل مخذول وإشارة مرور حمراء تقطع الطريق أمام من يحترفون لعب كرة المنضدة بقلوب الآخرين.
وقالها درويش (لم يكن شيئا مهما لك ياريتا لكنه كان قلبي)
في تجربة أجراها أحد الأطباء النفسيين على مريضة لديه تعاني من فقدان الذاكرة ،كانت في الستين من العمر وأصيبت بفقدان ذاكرة فيضطر الطبيب في كل لقاء أن يعيد تعريفها بنفسه لأن فقدان ذاكرتها من النوع المتجدد فهي تنسى ماحدث في اليوم السابق وكأنها لم تعشه.
في يوم التجربة وضع دبوسا في يده وعند انتهاء الجلسة مد يده ليصافحها فشكها الدبوس عندها سحبت يدها متألمة فاعتذر منها الطبيب فسامحته وودعته ورحلت ،وعندما أتت للجلسة اللاحقة مد الطبيب يدها لها ليصافحها فابتعدت عنه رافضة مصافحته وعندما سألها عن السبب لأنه يعلم انها فقدت كل ذكرياتها عن الجلسة السابقة قالت :
لاأعرف ولاأذكر شيئا لكنني فقط أخشى مصافحتك ولأدري لماذا .!!
هذا مانسمية بالذاكرة الإنفعابية أو الذاكرة العاطفية ،تنسى الأحداث ولا تنسى الإحساس.
عندما يتكرر الألم من شخص ما من شيء ما نتجنب الأشخاص والأشياء بشكل لاواعي خوفا من تكرار الإحساس الرهيب الذي مررنا به سابقا
تجارب علمية اثبتت أن هذه الذاكرة الإنفعالية تغير الحمض النووي وتغير الجينات فيتم توارثها جينيا من جيل إلى جيل..
هذا يعني أن حفيدك قد يخشى شيئا دون أن يعرف السبب.
لاأحد يبتعد من كلمة ولا تحفر قطرات الماء مجراها على الصخرة إلا بعد طول انهمار
إنها التراكمات..
حتى شرايينك لم تغلقها عدة أيام من تناول طعام غير صحي بل هي سنوات من الإهمال واللامبالاة.
فقد كان جسدك يشكو كثيرا مرة بالحمى ومرة بفقدان الطاقة ومرة بالصداع ،كان يصبر ويتحملك لكنك أناني لا تبالي إلا بملذاتك فأتعبته حد الإنهيار .
الخذلان ليس مفردة واحدة بل هي مجموعة أفعال وسنوات غدر وخيبة وصبر وعدم تقدير .
تقول الست في ملحمة اسأل روحك (أنا ياحبيبي صحيح بتسامح إلا في عزة نفسي وحبي وأما يفيض بي مابعرف أصالح وأعرف أجي كتير على قلبي)
إنه فيض من غيض . حينما يصل السيل الزبا وتختنق السدود فتنهار ويحدث الفيضان فيغرق الجميع بمن فيهم الخاذل والمخذول.
عندها سيرحل المخذولون بصمت ،كأزهار البرية تموت بصمت في وحدة وعزلة دون أي ضجيج ودون أن ينتبه إليها أحد.
تناجيه الست فتقول (سبتك من غير حتى ماافكر حقدر اسيبك أو مش حقدر ،سبتك ومافيش حد في عمري يشغل بعدك قلبي وفكري ،شوف شوف القسوة بتعمل أيه)
نعم هذا ماتفعله القسوة والجحود بالقلوب المحبة الطيبة .
تحيلها إلى كومة رماد محترق لأوراق كانت يوما خضراء ندية.
قالت إحداهن يوما وهي تحتضن حقيبة الرحيل الأبدي لزوجها عند الوداع :
أحببتك دوما ومازلت أحبك لكنني أكره أفعالك ،أنا لاأكرهك ولن أفعل لكنني أكره مايصدر منك
قال:
هذا هراء لايوجد مثل هكذا منطق بل انت تكرهينني وتتحججين بالتفاهات تنهين حياتنا بسبب ترهات قابلة للإصلاح .
نظرت إليه بعينين دامعتين وثغر تعلوه ابتسامة خيبة تزيدها عزة النفس مرارة ،ثم رحلت.
نعم نحن لانكره من سكنوننا يوما ،فسيبقى مسكنهم القلب لكن الروح الجريحة ترفضهم .
ننظر لهم بعينين يفيض منهما الشوق لكنهم بتروا ذراعينا فلا نتمكن من احتضانهم مرة أخرى.
بعد الخذلان سيكون بقائهم نشازا كطلقة مسدس في حفل موسيقي كما يقول ستاندال.
كحفلة عيد ميلاد في مقبرة ،كباقة ازهارا على قبر ميت لم يهدوه زهرة واحدة حين كان حيا فلاتنفع ولاتبهج ولاتصحح خطأ،لأن وقت الإصلاح قد فات .
عادة يشتري الناس باقات الأزهار ليضعوها على قبور أمواتهم أكثر مما يشتروها ليهدوها لأحبائهم الأحياء لأن الندم شعور أقوى من الحب وأكثر تمزيقا.
فكم أم حملت أبناءها العاقين في قلبها ورحلت لتختبئ في عزلة هي لن ولم تكرههم لكنه الخذلان فحسب.
يقول أحمد شوقي :
هجرت أحبتي طوعا لأني رأيت قلوبهم تهوى فراقي
نعم يشتاقهم قلبي ولكن طريق الذل لايهواه ساقي
هذا مايحدث حين يضعوك خيارا ثانويا وخطة احتياطية ،في حين تضعهم أنت طبق رئيسي لطعامك لاتستغني عنه، شريان أبهر يغذي ثلاثة أرباع جسدك ،رئتان لاتقوى على العيش بدونهما،شمس دافئة لايبدأ يومك بلا شروقها ،هذا مايحدث حين تضعهم في الأولوية ويضعونك في نهايات القائمة.
عندها ستعض على جرحك وترحل كذئب جريح يلعق جراحه في مغارة منعزلة بصمت وكبرياء.
(ولك لو تسوى العتب جا عاتبيتك)اختصرها ياس خضر بهذه الجملة.
عزة النفس هي انتصار كبير ومدو
هذا ماأخبرنا به تشيخوف وهو يؤكد (أنا لأملك انتصارات كبيرة لكنني قد أذهلك بهزائم خرجت منها حيا).
أخبروا هؤلاء القساة أن قبلة الإعتذار التي طبعوها على جبين ميتهم لم تكن دافئة ولم يشعر بها ،لقد فات الأوان .
هنالك أشياء بعد أن يصيبها العطب تصبح غير قابلة للإصلاح ،كحوض الماء الذي احضرته مسرعا لتضع فيه سمكتك الميتة بعد أن خنقها شحة ماءك ،هذا اعتذار متأخر جدا وتصريح بالحب لروح قتلتها بأنانيتك فلن يعيد ماء المحيطات أجمع الروح لسمكة ماتت اختناقا.
لكن ماأسهل أن نكون عقلاء بعد فوات الأوان..
أن نستغفر بعد أن يغلق باب التوبة الذي طالما كان مفتوحا فلم نبالي.
ليست ضربة الفأس الخمسين هي من حطمت الصخرة لكنها الضربات التسعة والأربعين السابقات من نخر جسدها وفتت قواها فانهارت.
ليست المشكلة الأخيرة من جعلتك تخسر أحباءك ،ليست الكلمة الأخيرة،ليس الخذلان الأخير ،إنها التراكمات إنه الصبر والتسامح الذي قابلته بقلة التقدير وباللامبالاة .
نعم ،قبل أن تسأل لما رحلوا ولماذا ،اسأل روحك !