كانت جدتي – رحمها الله – تقول – كلما ذكر الموت- : الموت علينا حق . تقولها بكل هدوء وسكينة ، وكنت أعجب من قولها أشد العجب ، فكأن جدتي لا تخشى الموت ، ولا تنزعج من ذكره ، وهي في العقد الثامن من عمرها ، وأنا في ذلك الوقت صبي ، يزعجني كل يوم صوت المنادي في الصباح الباكر ، وهو يشق فضاء قريتنا ، يقول : مات فلان ، أو ماتت فلانة . وتزعجني طقوس الموت ، وكانت في ذلك الوقت رهيبة ، فقد رأيت بنفسي امرأة تلطخ وجهها بالطين حزنا لموت أحد أقاربها ، وهي تبكي وتصرخ ، ومنظر النساء في ملابسهن السود وهن يتبعن الجنائز ، ككتلة من السواد تقذف بالصراخ والعويل ، والعجائز الذين يجلسون أمام القبر يقرءون القرآن بأصوات خشنة وهم ينتظرون الصدقات . كأن جدتي لا تعرف كل هذا ، ولا تنفر منه.
لكنني بمرور الوقت زال من نفسي هذا النفور ، وصرت أغشى مجالس العزاء ، أقوم بالواجب ، وأنصت إلى من يقرأ ، وأستمع إلى من يخطب ، وتعجبني الكهارب ، والذين يضيفون المعزين وهم يحملون الماء البارد والقهوات ، ويمرون بين الصفوف بخطوات رشيقة ثابتة ، وفي بعض العزاءات تنصب الأخونة ، وتوضع عليها أصناف الطعام والشراب ، والناس يأكلون بشهية قوية ، لا يفكرون في الموت ، ولا يعبأون بحزن أهل الميت ، لابد أن جدتي كانت تعرف كل هذا ، ولابد أنها قد رأته وجربته ، لقد كانت جدتي على حق.