كم كنت أتمنى أن تبادر وزارة الثقافة، والمؤسسات المعنية بالآداب والفنون إلى إحياء ذكرى واحد من أهم النقاد الذين مروا في حياتنا، وهو الأستاذ الكبير فاروق عبدالقادر،
فالرجل الذي غاب عن دنيانا في 22 يونيو من سنة 2009، (مولود في 1938)، يعد أكثر النقاد جسارة وجرأة في مواجهة كل ما هو سيء وقبيح في عالم الإبداع.
عرفت كتابات الرجل للمرة الأولى عام 1982، حين اطلعت على كتابه المدهش (ازدهار وسقوط المسرح المصري). كنت أتصفح الكتاب في الثامنة ذات نهار طيب على كورنيش إمبابة،
فإذا بي ألتهم صفحاته التهامًا، ومن تلك اللحظة، ظللت أطارد مقالاته وكتبه، ثم وهبتني المقادير نعمة التعرف إليه شخصيًا في النصف الثاني من الثمانينيات.
كان يجلس مساء كل أحد على مقهى سوق الحميدية بباب اللوق، فكنت أحرص على اللقاء معه بعض الوقت، ومع مرور الأيام صرنا صديقين، ألتقي به منفردًا في هذا المقهى أو ذاك، أو أزوره في بيته بمنطقة منية السيرج بشارع شبرا،
وما إن يخلو لنا الجو حتى أغمره بأسئلتي عن المسرح والأدب والفن ونجوم النصف الثاني من القرن العشرين، الذين ارتبط بهم بعلاقات وثيقة،
وقد دعوته للكتابة بانتظام في مجلة الصدى الأسبوعية التي كنت أتولى رئاسة القسم الثقافي بها، ثم مجلة دبي الثقافية التي أسستها مع الأستاذ سيف المري وأدرت تحريرها، وأشهد أن مقالاته كانت مترعة بالمتعة والفائدة (كان يكتبها بخط يده الصغير جدًا جدًا).
حدثني فاروق عن كيف أنه قرر هو وأمل دنقل ألا يغادرا مصر مع الذين غادروا في زمن السادات، وقال لي:
(فوجئت ذات يوم بأن أخبرني أمل بحزن وعناد: محمود العالم خرج، وكرم مطاوع خرج، وأحمد عبدالمعطي حجازي خرج… كلهم تركوا البلد للسادات و”طفشوا”، فما رأيك يا فاروق ألا نخرج ونظل هنا في القاهرة لنشهد على الكوارث التي يصنعها نظام السادات؟).
أوتي فاروق جسارة لم يحظ بها ناقد لا قبله ولا بعده، فحين كتب أحد كبار المسؤولين في وزارة الثقافة سيرته الذاتية، والجميع احتفى بها، تصدى له الرجل بمقال حاد عنوانه: (كل هذه الأكاذيب في كتاب واحد)،
وعندما نال جلال الشرقاوي جائزة الدولة التقديرية كتب فاروق: (جائزة الدولة لواحد من تجار المسرح)، ولما حصد رجاء النقاش جائزة الدولة، اعترض فاروق بمقال عنيف عنوانه: (جائزة الدولة لواحد من مثقفي عصر مبارك)،
أما حين احتفلت الصحف والمجلات والإذاعات بمسرحية شعرية وصاحبها، انبرى فاروق ليفضح ركاكتها في مقال مدهش عنوانه: (…. خطوة كبرى بالمسرح الشعري إلى الوراء).
فضح فاروق أيضا هزال مسرح (الدكاترة الأربعة) الذين شغلوا الناس بمسرحياتهم المتواضعة في الثمانينيات والتسعينيات، متكئين على مناصبهم الرفيعة آنذاك.
لم يسلم جمال الغيطاني أيضًا من الانتقادات الحادة لفاروق، فقد وصفه غير مرة هكذا (الخطّاء القديم)، ولما تدخل الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي ليوقف المعركة المحتدمة بين الرجلين، كتب فاروق موضحًا لحجازي أنه تابع كل أعمال جمال، وأنه أرضى ضميره الأدبي تجاهه طوال الوقت قائلا لحجازي بعتاب:
(أيام لم تكن فيها بيننا… كنت تنعم ببرد تهامة، وكنا نتلظى في لهيب نجد)! في إشارة إلى أن حجازي كان قد هاجر إلى باريس بينما ظل فاروق في القاهرة يواجه كوارث عصر السادات كما كان يقول لي.
عشق فاروق نجيب محفوظ، وأولاه الكثير من كتاباته النقدية، وقد حكى لي أنه أول من أجرى حوارًا طويلا مع محفوظ في صباح اليوم التالي لفوزه بجائزة نوبل:
(انتظرته في حدود السادسة والنصف صباحًا في مقهى علي بابا بميدان التحرير. كان سعيدًا وهو يتلقى التهاني من العابرين، ثم قال لي: هذه الجائزة يا فاروق تؤكد أن جهدي طوال نصف قرن لم يذهب سدى).
أجمل ما فاروق عبدالقادر هو علاقته العميقة باللغة الفصحى، فهو قادر على تطويعها في صياغات بالغة الرشاقة والعذوبة. لذا ليتنا نطلق اسمه على شارع أو مدرسة، فهو يستحق كل حفاوة وتكريم.