من أهم النتائج التي حققها طوفان الأقصى أن وضع إسرائيل في حجمها الطبيعي كدولة مصطنعة، وكيلة عن الدول الغربية، وقاعدة عسكرية زرعت في المنطقة العربية لأهداف استعمارية، وأنها رغم كل ما تملك من المال والعتاد والسلاح، وكل ما يمكن أن يسخر لها من قدرات ومقدرات وحماية دولية، ليست قادرة على الدفاع عن نفسها بنفسها، وليست عصية على أن تهزم عسكريا، وتجرس إعلاميا، وتضطرب سياسيا من الداخل، حتى يصل الأمر برئيس حكومتها إلى الإقرار علنا بأنها مهددة بحرب أهلية.
كانت إسرائيل تروج دائما أنها قلعة حصينة مرعبة، مدججة بكل أنواع الأسلحة، تحميها شبكة من العلاقات والمصالح العالمية، لكن هذه القلعة (الحصينة) تحولت في أيام معدودة إلى كيان مذعور، يسكن الرعب في كل ركن من أركانه، جيشها مذعور في حواري غزة وأزقتها وشوارعها ومبانيها المهدمة، يخاف أن يأتيه الموت فجأة من مخبأ فوق الأرض أو تحت الأرض، ومستوطنوها حول غزة وفي الشمال والجنوب مرعوبون من صواريخ الموت التي تأتيهم من كل اتجاه، وهم قد جاءوا إلى هذه البلاد للعيش الآمن الرغيد، وليس لديهم استعداد للموت من أجل أرض لم ينبتوا فيها، أو من أجل جماعة من المتدينين المهووسين، الذين حصلوا أثناء الحرب على قانون يعفيهم من التجنيد في الجيش.
وكانت إسرائيل تمعن في القتل والتخريب وهي آمنة من القصاص، وتتبنى استراتيجية الذراع الطويلة، والقوة المفرطة التي لا تقهر، حتي ييأس الجميع أمامها من التفكير في أي نوع من المقاومة، وبذلك تفرض سياسة الأمر الواقع، ويتحقق لها الأمن المطلق، ثم وقع الطوفان فأوجد معادلة جديدة تقوم على تبادل الرعب، أو توازن الرعب، العين بالعين، والسن بالسن، والباغي أظلم.
ورغم الفارق الكبير في طبيعة السلاح والقدرات التدميرية لكل من إسرائيل ومحور المقاومة إلا أن الصواريخ والمسيرات الآتية من غزة واليمن والعراق وجنوب لبنان استطاعت نشر حالة من الرعب داخل إسرائيل، وإن لم تصب أهدافها بدقة، وتوجيه رسالة إلى اليهود في كل أرض فلسطين بأنهم محاصرون من جميع الجهات، وليسوا بعيدين عن الموت، ما يعني أن إسرائيل صارت تواجه متغيرا جديدا، إذ لم تعد الطرف الوحيد القادر على إطلاق النار، وصاحب الحق في أن يضرب أينما شاء كيفما شاء ووقتما شاء، كما أن القوة العسكرية التي كانت حكرا عليها انتقلت إلى أطراف أخرى في المنطقة، فلم تعد تنفرد بالمقاومة الفلسطينية محدودة القدرات، صارت هناك جبهات إسناد من خارج الحدود، تحارب دعما للمقاومة، مثلما تحارب أمريكا وأوروبا إلى جانب إسرائيل، وتشكل ورقة ضغط لصالحها على مائدة المفاوضات.
وعلى هذا النحو اختل الميزان العسكري لغير صالح إسرائيل لأول مرة في تاريخها، وارتفع حجم خسائرها إلى معدلات كبرى لم تعرفها من قبل، وواجهت صمودا طويل الأمد غير مسبوق في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، رغم أن المقاومة تحارب بدون دبابات أو طائرات، أو دروع ومعدات حديدية، وإنما قاذفات صغيرة وسواعد مؤمنة، ورجال يرتدون ملابس رياضية ونعالا متهالكة، وأحيانا حفاة، دون خوذة أو واق على الرءوس.
ولم يقتصر الرعب من هؤلاء الرجال على إسرائيل، بل امتد إلى أمريكا والدول الغربية والحكومات والتنظيمات المتحالفة معها، فحين تنفجر عبوة ناسفة في رتل من جنود العدو، أو تسقط قذيفة ـ مجرد قذيفة بسيطة ـ وسط تل أبيب، تخرج التصريحات الرسمية في عواصم الحلفاء مزمجرة، ترعد وتتوعد بأنها لن تسمح بمحو إسرائيل، لكن عندما تحصد طائرات العدو أرواح المدنيين النازحين في الخيام تتحول التصريحات إلى همسات هادئة رقيقة، تدعو إلى ضبط النفس ووقف أعمال الكراهية.
هذا الرعب العام من ضربات المقاومة ومفاجآتها يخفي وراءه حقيقة مهمة، فمعركة الطوفان صارت تمثل في الوعي العربي والإسرائيلي والغربي خطرا داهما، ونموذجا جريئا للمقاومة، استطاع أن يفرض استراتيجية توازن الرعب علي الجميع، فالإسرائيلي يتألم كما يتألم الفلسطيني، ويعاني كما يعاني، وهذه الاستراتيجية آخذة في التمدد والاتساع مع توالى الأيام والشهور، وعدم قدرة حكومة نتنياهو على توفير الأمن الكامل لمواطنيها، أو استعادة أسراها والقضاء على حماس وتحقيق النصر المطلق الذي وعدت به في بداية الحرب.
وما يحدث من اضطرابات وانقسامات واستقالات ومظاهرات داخل إسرائيل لأول مرة في تاريخها ليس إلا الجزء الظاهر من توابع الطوفان، وما خفي هو الأهم، فالغرب يدرك اليوم أن خروج إسرائيل مهزومة، أو حتى غير منتصرة، من حرب طويلة مع المقاومة ستكون له عواقب وخيمة عليهم جميعا، وأول هذه العواقب سقوط مشاريعهم واستراتيجياتهم مع سقوط أسطورة الدولة الأكثر تفوقا، ذات القدرات الأمنية الخيالية والجيش الذي لايهزم، ومركز حماية اليهود في العالم.
لقد اختار الله الفلسطينيين لأجل ابتلاء وأعظم تجربة، أن يكونوا حماة القدس وحراس المسجد الأقصى وطليعة الجيل الذي يحارب لتحرير الأرض المحتلة، وتحرير إرادة الأمة الإسلامية، وإنقاذها من التبعية والذوبان، وادخر لهم أعظم جائزة، فهم الآن يعيشون بقرب الآخرة تماما، عراة جياعا ظمأى، كل منهم مشروع شهيد، يتحركون ويعيشون ولا يعرف أحدهم أين سيكون في الدقيقة التالية؛ من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، ومعركتهم ليست معركة أرض فحسب، بل معركة أمة تدافع عن وجودها وهويتها في مواجهة من يريدون إطفاء نور الإسلام، وإذا نظرنا إلى مؤامرات السنوات العشرين الأخيرة وحدها تأكد لنا ذلك، منذ ظهور دعوات الفرقة والفوضى الخلاقة، وتهميش الدين وتشويه التراث وسب الصحابة وإهانة الرموز، وصولا إلى الديانة الإبراهيمية التي ابتدعوها لتحل محل الإسلام.