ظل الدولار الأمريكي متربعا على عرش العملات عالميا على مدار عقود، لكن محاولات إنهاء هيمنته على المعاملات التجارية الدولية تتصاعد وتيرتها من حين لآخر. يتمتع الدولار الأمريكي بوصفه العملة الاحتياطية العالمية، والذي بدأ مع اتفاق بريتون وودز في عام 1944 وإنشاء البنك وصندوق النقد الدوليين، وأسفر بذلك عن إقامة نظام جديد كانت فيه أسعار الصرف مستقرة ومرتبطة بالدولار الذي كان بدوره مرتبطًا بالذهب بسعر ثابت لأونصة الذهب أمام الدولار الأمريكي بنحو 35 دولارًا لكل أونصة ذهب وقد استمر هذا النظام حتى عام 1971.
في ذلك العام، تم فك الارتباط بين الذهب والدولار، وهو ما دفع دول العالم خلال هذه الفترة للتهافت على الدولار لتكوين احتياطياتها. وبذلك أصبحت لدى البنوك المركزية في العالم، وخاصة الدول النامية، مخزونات كبيرة من الدولار الأمريكي لتسهيل المعاملات الدولية وتثبيت أسعار الصرف وتوفير السيولة، ويزداد الطلب على الدولار الأمريكي بسبب هذا الدور الرئيس في النظام المالي العالمي.
مع أن حصة الدولار من احتياطي النقد الأجنبي لدى المصارف المركزية حول العالم تراجعت لنحو 58.41% في الربع الرابع من عام 2023، مقارنة بنسبة بلغت 61.76% في الربع الرابع من عام 2018، إلا أنها ما زالت تسيطر على النسبة الكبرى من الاحتياطيات الدولية في مقابل 19.98% لليورو، وتواضع حصة بعض العملات الرئيسة في العالم، إذ بلغت حصة الين الياباني 5.70%، والجنيه الإسترليني 4.84%، والرنمينبي الصيني 2.29%، وذلك في الربع الرابع من عام 2023. يرجع أهم سبب في هيمنة الدولار الأمريكي إلى الاستقرار الذي شهده النظام النقدي والمالي الاقتصاد الأمريكي؛ حيث أبقى بشكل كبير على سيطرة الدولار الأمريكي في سوق العملات الأجنبية، فتشير التقديرات إلى أن الدولار الأمريكي يسيطر وحده على نحو 88% من جميع المعاملات، وتظهر استطلاعات بنك التسويات الدولية (Bank for International Settlements)
التي تجري كل ثلاث سنوات أن حصة الدولار في تداول العملات الأجنبية العالمية ظلت مستقرة في حين انخفضت حصة اليورو من 38% في عام 2001 إلى 31% في عام 2022، ولا تزال حصة الرنمينبي الصيني عند 7% فقط عام 2022، وهو ما يأتي عكس التوقعات التي كانت تتنبأ بتراجع حصة الدولار الأمريكي عالميًّا.
“هدف إنهاء الاعتماد على الدولار في علاقاتنا الاقتصادية لا رجعة فيه”، هكذا تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمة مسجلة شارك بها في قمة تكتل الاقتصادات الناشئة الرئيسية “بريكس”، التي استضافتها جنوب أفريقيا. لكن سقف طموحات الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا بدا أعلى، إذ حث قادة التكتل على إنشاء عملة مشتركة لتستخدم في التبادل التجاري في ما بينها.
ولا يمكن إغفال أهمية اقتصادات “بريكس”، فأعضاء التكتل حاليا – الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا – يمثلون أكثر من 40 في المئة من سكان العالم ونحو 25 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. كما وجهت الدعوة لست دول أخرى للانضمام إليه، ومن بينهم حلفاء للولايات المتحدة، مثل السعودية والإمارات..
ومنذ بداية 2023 صدّرت الصين بضائع بقيمة 81.4 مليار دولار نحو روسيا، بزيادة 56.9% عن 2022، أما روسيا فصدّرت نحو 95 مليار دولار نحو الصين، وبزيادة سنوية بلغت 12.7%. ويأتي ذلك بالتوازي مع خطة تحويل مدفوعات النفط والغاز الروسية، التي ستستمر في العمل -حسب مسؤولين روس- طالما أن الدول الأوروبية تعتقد أنها لا تستطيع تقليل اعتمادها على موسكو دون تكبد مصاعب مالية غير مقبولة.
فالصين -وفقا له- تعدّ عملاقا اقتصاديا ليس من حيث الإنتاج والصادرات فقط، بل من حيث حجم قطاعها المالي كذلك، الذي يعدّ حاليا الأكبر في العالم، إذ تبلغ قيمة أصوله 60 تريليون دولار، أي ما يعادل 340% من الناتج المحلي الإجمالي للصين.
ويتابع أنه رغم القوة الواضحة التي شهدها الدولار في النصف الأول من 2022، واستخدامه سلاحا لفرض العقوبات على روسيا، فإن ذلك أعطى زخما جديدا لبعض أكبر الاقتصادات في العالم لاستكشاف سبل للالتفاف حول العملة الأميركية، وعلى رأسها روسيا والصين.
وبالإضافة إلى ذلك، ووفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، “كانت هناك زيادة في حصة الاحتياطيات المحتفظ بها بالرنمينبي الصيني”. ويمثل هذا ربع التحول من الدولار إلى الرنمينبي في الأعوام الأخيرة.
وفي حين أن روسيا والصين في طليعة الدول التي تسعى إلى التخلص من الدولار ف التجارة الثنائية، فقد سارعت دول ومناطق أخرى أيضًا إلى تسريع الجهود الرامية إلى الابتعاد عن الدولار في التجارة. هذا، وتختار البرازيل والأرجنتين والهند وجنوب إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا التداول بالعملات الوطنية أو البديلة للتسويات الدوليَّة، ومن المتوقع أن تكتسب هذه العملية المزيد من الزخم.
الحديث عن إلغاء الدولرة ليس جديدًا في الآونة الأخيرة؛ فلقد أدى إطلاق اليورو في عام 1999 إلى خلق توقعات بأن اليورو سوف يتمتع بمكانة متساوية مع الدولار أو سيطيح به. ومرة أخرى، خلال الأزمة المالية عام 2008، كان انهيار الدولار متوقعًا.
لكن مرونة الدولار وقدرته على الارتفاع في أوقات الأزمات ساعدته على الحفاظ على ازدهاره وتفوقه، وينظر إليه كأصل ملاذ آمن للمستثمرين.
في الوقت الحاضر.. ما الدوافع الرئيسة وراء التحول عن الدولار الذي نلاحظه عالميًّا؟
ساهمت العقوبات المفروضة على روسيا -وهي أكبر مصدر للطاقة في العالم- في إنشاء نظام دفع دولي خارج نظام سويفت الذي يُهيمن عليه الدولار. وأدَّى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين إلى سعي روسيا والصين وحلفائهما إلى تبني سياسات داعمة لاقتصاداتهم، بما في ذلك الهروب من سيطرة الدولار الأمريكي واستخدام الأنظمة البديلة. وعلى وجه الخصوص، فإن العقوبات الأمريكية على روسيا جعلت بعض الدول تشعر بالقلق إزاء الاعتماد المفرط على العملة الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، وعلى خلفية ارتفاع أسعار الفائدة، أصبح الدولار الأمريكي القوي أكثر تكلفة بالنسبة للبلدان الناشئة؛ مما دفع البعض إلى التداول بعملات أخرى. وفي يوليو 2023، أصبحت بوليفيا الدولة الأحدث في أمريكا الجنوبية -بعد البرازيل والأرجنتين- تدفع ثمن الواردات والصادرات باستخدام الرنمينبي الصيني.
والوضع مشابه بالنسبة لدول الشرق الأوسط؛ فهي أيضًا تبحث عن بدائل للدولار، والسبب في رغبة بعض دول الشرق الأوسط في الابتعاد عن الدولار هو الشعور بأن الولايات المتحدة تحاول إعادة كتابة قواعد سوق النفط العالميَّة -لاستهداف المصالح الروسية- وهذا يمثل تهديدًا استراتيجيًّا للمملكة العربية السعودية. ولهذا السبب يبدو من المرجح أن يستمر الابتعاد عن الدولار الأمريكي ما استمرت العقوبات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الدولار هو العملة المُهيمنة في الشرق الأوسط، وترتبط هيمنة الدولار نفسه جزئيًّا بسمة ثابتة أخرى للاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط، وهي الاعتماد على قطاع الطاقة. منذ السبعينيات، دخلت دول الخليج المنتجة للنفط في شراكة مع الولايات المتحدة؛ حيث توفر أمريكا الأمن، وتقوم دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بتصدير النفط. وقامت معظم دول الخليج، باستثناء الكويت، بربط عملاتها بالدولار الأمريكي.
ومع توسع البريكس، بانضمام كبار مصدري الطاقة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران، فإنه من المتوقع أن تزيد فرص التعاون بين أعضاء التكتل في مجال الطاقة. كما نجد دولًا كإيران وروسيا والصين لديها حوافز قوية لتطوير نظام عملة بديل بسبب مخاوفها بشأن العقوبات وانفصالها عن النظام القائم على الدولار. ويزيد هذا التوسع أيضًا من إمكانية تشجيع استخدام عملات غير الدولار في تسعير الطاقة وتداولها وتسويتها.
على سبيل المثال، شهد تداول العقود الآجلة للنفط بالرنمينبي الصيني، والذي تم إطلاقه في عام 2018، تطورًا سريعًا. كما أن الحكومة الصينية مهتمة جدًّا بتعزيز استخدام الرنمينبي في تجارة الغاز الطبيعي. وفي عام 2023، تم شراء وبيع ما يُقدَّر بنحو 20% من النفط العالمي بعملات أخرى؛ حيث باعت روسيا وإيران شحنات إلى الصين ومشترين آخرين.
ما العملات التي يمكن أن تطيح بالدولار؟
وفيما يتعلق بالمنافسين، فاليورو والرنمينبي هما العملتان الأكثر احتمالًا لإزاحة الدولار كعملة دولية أولية، لكن من غير المتوقع أن يتجاوز أي منهما الدولار خلال العقد المقبل. العقبة الرئيسة أمام اليورو هي أنه من المرجح أن تتضاءل الأهمية الاقتصادية لمنطقة اليورو في الاقتصاد العالمي (بالنسبة لأهمية الولايات المتحدة). حاليًّا، يبلغ الناتج الاسمي في منطقة اليورو (مقيسًا بالدولار) ما يقرب من ثلثي حجم الناتج الاسمي للولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تتسع هذه الفجوة بمرور الوقت مع نمو الولايات المتحدة بوتيرة أسرع من اقتصادات منطقة اليورو. ونظرًا لأنه من غير المتوقع أن يتجاوز الناتج الاقتصادي في اقتصادات منطقة اليورو الناتج الأمريكي، فمن غير المرجح بالمثل أن يتجاوز الاستخدام الدولي لليورو استخدام الدولار على مدى السنوات 10 المقبلة وما بعدها.
تحاول الصين تدويل الرنمينبي. ومع ذلك، فإن البصمة العالميَّة للرنمينبي لا تزال صغيرة على الرغم من نموها كل عام، وستكون هذه عملية طويلة وتتطلب الإصلاح. على سبيل المثال، يشكل الرنمينبي 2.3% فقط من مدفوعات سويفت، في مقابل حصة الدولار البالغة 43% وحصة اليورو البالغة 32%، وذلك وفق تقديرات بنك جي بي مورجان الصادرة في 31 أغسطس 2023.
ومع ازدياد أهمية الصين في التجارة العالميَّة، فمن المتوقع أن يتولى الرنمينبي دورًا أكبر في الاقتصاد العالمي مع مرور الوقت، ولكن من المرجح أن يحدث هذا التحول على مدى عقود من الزمن.
إن الترويج للصين والرنمينبي كبديل موثوق للولايات المتحدة والدولار يتطلب تخفيف ضوابط رأس المال، وفتح الأسواق، وتنفيذ تدابير لتعزيز سيولة السوق، وتعزيز سيادة القانون، والحد من التخصيص والمخاطر التنظيمية، وتعزيز سندات الحكومة الصينية كبديل للأصول الآمنة.
يمكن للعملات الرقمية للبنك المركزي أن تقلل من هيمنة الدولار في التجارة الدوليَّة فظهور العملات الرقمية الخاصة والرسمية تساهم في فقدان استقرار الأنظمة المالية المحلية والدوليَّة. دعونا ننظر في المدفوعات الدوليَّة، على سبيل المثال، وهي تنطوي على عملات متعددة، وأنظمة دفع تحكمها بروتوكولات مختلفة، ومؤسسات تخضع لقواعد تنظيمية مختلفة. كانت المدفوعات العابرة للحدود دائمًا بطيئة ومكلفة، فضلًا عن صعوبة تتبعها في الوقت الفعلي. في الوقت الحاضر، تسمح التقنيَّات الجديدة التي أدخلتها ثورة العملات المشفرة بإجراء الدفعات وتسوية المعاملات بشكل فوري وبتكلفة أقل.
وحتى البنوك المركزية تشارك في العملية؛ فهي تنتهز التقنيات الحديثة لزيادة كفاءة وسائل الدفع والتسوية التي تستخدمها المؤسسات المالية المحلية في تنفيذ المعاملات العابرة للحدود. ويوجد حاليًّا تعاون بين بنوك الصين المركزية، ومنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة التابعة للصين، وتايلاند، ودولة الإمارات العربية، بالإضافة إلى التعاون بين عدد آخر من البنوك المركزية في مجالات مُشابِهة.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا