أسقطت الملكية وأعلنت الجمهورية التي لبت تطلعات وآمال الشعب المصري؛ فرحل الاحتلال، وعضدت العدالة الاجتماعية، بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي ذهب بغايات الإقطاع لإدراج الرياح، ومصرت البنوك والشركات، واتخذ قرار تأميم قناة السويس، ودشن لسد العالي، وكسر الاحتكار المادي والمعنوي، وحررت الحكومات من إملاءات ومكبلات التعامل العسكرية منها والمدنية على حد سواء، وتشجعت دول لتأخذ مسار حريتها للأبد على نهج الثورة المباركة؛ إنها ثورة 23 يوليو التي ستظل في تاريخ الأمة المصرية، بل والعربية تمثل شرفها ومسار حريتها المستدامة.
لقد حققت الثورة المجيدة تغييرات جذرية ما كانت لتحدث لولا رجال مخلصون حملوا على عاتقهم هموم وطن عانى مئات السنين من الاحتكار، واغتصاب حريته، وموارده، والتحكم في أقدار قاطنيه، بما يعود بالنفع للمستعمر والمستفيد وكل من يُعد وكيلًا عنهم، وأجمل ما في أحداثها ذكاء روادها وقادتها في العبور بها لبر النجاة، وتجنب كافة المحاولات التي كانت تستهدف النيل من مبادئها وأهدافها السامية، ومن ثم فرضت حالة من بث الطمأنينة والاستقرار الممنهج واتخذت القرارات والإجراءات الجريئة التي أطاحت بغايات المغرضين حينها.
وشهادة عزة نفخر بها وتعد وسام على الصدور تجاه الجيش المصري العظيم الذي دومًا ما ينحاز للشعب ولا ينخرط في تيارات السياسة وموائمة الملوك والحكام؛ فقد استشعر وقتها أن البلاد ازدادت فقرًا، وأن السياسية باتت منغلقة الأفق، وأن الاقتصاد في حالة من التردي، وأصبح جموع الشعب يعاني العوز والفاقة رغم موارد الوطن المتوافرة؛ لكنها قيد النهب لفئة بعينها تمثلت في الحكام والمحتل وداعميه، وأن الحالة الاجتماعية أضحت في حالة من الاحتقان والغليان، كما أن تضييق الخناق سمح لحركات تمارس العنف والمواجه المسلحة الممنهجة منها والعشوائية؛ فصارت الأمن والأمان والاستقرار في غياب تام، ومن ثم بدأ التخطيط لأحداث الثورة رغم التحديات والمخاطر والمحاذير المعلومة منها وغير المعلومة، تلا ذلك شجاعة التنفيذ المحكم والسيطرة التي أيدها واصطف خلفها الشعب الأبي الذي يرفض على مر تاريخه حالة التبعية والهوان والإذلال ولا يقبل إلا بعلو هامته وعزته.
لقد استعادت مصر مكانتها بفضل ثورة 23 يوليو؛ حيث ساعدت في استقرار المنطقة العربية، وصار هناك مناخًا مواتيًا لتعضيد العلاقات مع كثير من الدول، ومن ثم تغيرت مجرى الحالة السياسية في الكثير منها، وأضحت تمتلك قرارها وحددت مصير مسار نهضتها، بل وسعت لتحسين الحالة الاقتصادية لديها عبر استغلال مواردها والاستعانة بخبراء المجال، وأظهرت الشعوب العربية موقفًا داعمًا لبعضها البعض؛ فالجميع يعشق الحرية ويبغض الاحتلال والطغيان، ومن ثم تضافرت الجهود العربية في دحر محاولات الغرب في إسقاط غايات الثورة ودحض أهدافها وتدمير مبادئها؛ لكن الإرادة والمساندة ذهبت بتلك المحاولات إلى غير رجعة.
إن ما قام به المصريون من ثورات عبر نضال تاريخهم يؤكد على أمر جامع يتمثل في الرفض القاطع للاحتلال والسعي دومًا للاستقلال، ومن ثم السيطرة الكلية التي لا ينازعه فيها أحد فيما يخص مقدراته وتراب وطنه؛ فالمصريون لا يتقبلون فكرة الاستحواذ، ويرفضون الجور ولا يتواطئ مع سبل ومظاهر الفساد والإفساد مهما بلغت قوة وصولة من يحمونه؛ فكل محتل أو غازي لمصر مصيره إلى الزوال، ومن يتربص بها الدوائر فمآله إلى الهلاك والفناء؛ لأنها محفوظة بمعية الله عز وجل، ومحاطه برجال شرفاء أقسموا وعاهدوا وقدموا الدماء والأرواح فداء لحريتها على مر التاريخ، وما تزال التضحيات من أجل بقائها نراها عين اليقين في كل وقت وحين.
إن مبادئ ثورة 23 يوليو مازالت في الأذهان حية راسخة؛ فذاكرة الأمة ووجدانها يحمل معالمها ومعانيها؛ حيث إنها أحدثت تغييرًا جذريًا في حياة الشعب المصري والشعوب العربية وغير العربية قاطبة؛ فقد استشعرت وفقهت ما يعانيه الكادحون من هموم؛ فهم يمثلون لبنة المجتمع الحقيقية؛ وهم من يسعون إلى التغيير والتنمية في مناخ يسوده العدل وتعضده فلسفة تكافؤ الفرص؛ ليصبح الإنسان قادرًا على العطاء وتقديم أفضل ما لديه بعد إعداده بصورة مقصودة من خلال مؤسسات توفر له مقومات اكتساب الخبرات بتنوعاتها.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر