يومها كنت صغيرًا ثم كبِرْتُ، وسِنِينُ عمري تُعَدُّ على أصابع يُمناي ويُسراي، وحِجْرُ أمي ملاذي ومبتغاي، ومشتاهي ومنتهاي، ومحياها ومحياي، وعيناها وعيناي قبالة اليمّ المٌقلّ لسفينة قد مَخَرَتْ فيه، تنْعِق بصوت عجيب، فإن غاصت نَخَالُها في الغارقات، وإن طافت تَسْبَح نظنُّها في الناجيات، ناهيك عن شِراعِها الأحمر المذهل، لونه القاني الْمُضْرَج بصبغ الدم المهراق، وصفرة الوجوه الواجفة من معاصرة الانكسار، أو الأرجواني المحاكي قدوم المساء، وأنظار كثير من الناس تتطلع إليها باشتياق، وأقدامهم تتقلع في صَبَبِ الاستباق، وهي بين الحين والحين تَزْعَقُ بصوت كأنه البُوق يحفِّز للحاق، وذراعا أمي تمسكان بي مخافة الإفلات .
ومما زاد من عجبي عصرها أنّ رجالاً لم يكونوا في الحُسْبان اِتَّخَذوا سبيلهم سبْحًا إليها فمنهم من استقل القوارب ،ومنهم من لاذ بذات بألواح ؛ ومنهم من أَنهكه من الموج العبابٌ فآب ، ومنهم من تعلَّق وتسلَّق وحلَّق ومنهم من غٌم علينا أَن نراه ويكأنه بالمحاق !
حقيقةً انتابني شعور مثلما انتابهم واعتراني ما اعترى كثير منهم، وأمي من حولي ما انفكّت تربَّت على كتفي وتتعوذ بكلمات الله تمسح على رأسي مَسحة الراقي من عين الشراع الخَدّاع ؛ والشمس التي عَصَبَت جبينها من حٌمى الوداع توشك أن تسقط في الطَفل ؛وكأن السّفينة قد أٌقتّت أو أٌجلَّت للإقلاع معًا ،ولسان حال الزمان يقول :
- ترقبوا ليل الشوامت !
والناس تترَى ينكبون كبًا ويزجهم ريحها العاصف زجًا زجَا وهم في نَشْوَة منه ومن لون الشراع ؛ وما لأمي من كلامِ :- سوى اللهم السَّلامة والسلام .أردد معها ولا انثني عن سؤلي فتارة خبرًا وتارةً إنشاء لعلَّي أجاب أو أن أبلغ الأسباب ! فأقول :-
أحمر لون الشراع !!
تتمتم بالدعاء
ليت السّفينة تدنو من الساحل أو تلوذ بمرافئ الشاطئ !
تلهج بذكر الله .
ولما الرجال يا أٌم قبل العيال قد سبقوا إليها ! ولم الراجح الحصاة ذو العقل والأناة أمسى يرافق الخِف اليَرَاعِ ؟!!
فتضرب بكفها القديم على صدري ضربة خفقت لأجلها دقاته كخفوق شمس النهار ، وسرعان ما طفقت تمسح عن وجهي الغض كأبة المنظر وقد فزعت :
أَزِفَ المغرب يا فتي … قٌم لتؤّم الأنام .
أَزِفَ المغرب يا فتي … قٌم لتؤّم الأنام
الأنام ؟ ! أي أنام ؟ ! وسواد القرية قد نزحوا مع السفينة للشمال .وما بلغت من القرآن مبالغ الحفَّاظ ؟!!
قالت :- فبما عٌلمت ياغلام !! - وألبستني من ثوبنا الأزهر، وعمامة العلماء ،وقدَّمتني لرجال يسبق خطوهم سعيي، إذا يمشون على استحياء، وأنا وجِلٌ، وبي خجل، وأُدْفَع دفعًا لكوَّة المحراب، وقبل أن أقول: استقيموا، نظرت نظرة من نافذة المٌصلى المطل على البحر المسمَّى قديمًا ببحر العرب، أود ممن أبحروا لو يرجعوا، لكن الأمواج قد عصفت بها الريح لمرسى سحيق، وصنعت أزبادًا بحجم التلال، وسفائن مواخر كالسلال تقِلُّ بغير مَلالٍ، قادمات من بعيد، وعن قبلتنا لا تحيد، صادحات بدلٍّ ودَلال:
هل من مريد؟
فاستحضرت مقام الحجاز تيمُّنًا بأمي، وتلوت ما جاء في القرآن عن الأزباد والبحر، فتلوتها عديدًا، وحبَّرتها تحبيرًا، وجهرت بها جهيرًا، حتى أَسمَعّ الصدى مَن على متن السفائن صوتي، هنالك نادت في الناس أمي: - يا قوم حيَّ على الصلاة.
- يا قوم حيَّ على الفلاح