عندما يخرج الفرد عن مساق القيم التي تحض على السلوك القويم وتتنافى مع معايير بناء المجتمعات ولا تتقابل مع صحيح القيم والعادات والتقاليد التي تربى عليها المجتمع وتقبلها وعمل على تناقلها وحمايتها بكل الوسائل والطرائق؛ فإن ذلك يؤدي حتمًا لتصادمات يتمخض عنها أنماط من العنف، وهذا ما مجمله يشير إلى ماهية التطرف.
والتي تدور حول ميل الفرد أو الجماعة إلى الانحراف عن الوسطية والاعتدال في الأفكار والمواقف والسلوكيات، ويشمل (التطرف الفكري – التطرف الأيديولوجي – التطرف السياسي- التطرف الديني- التطرف السلوكي) ويعد التطرف ظاهرة خطيرة لما لها من تأثيرات سلبية على الفرد والمجتمع، ولذلك تسعى المجتمعات للحد من انتشاره ومواجهته التصدي له بكافة الوسائل الآليات.
ونلاحظ أن المتطرف يتبنى مبادئ تقوم على إيمانه العميق بقناعات معرفية مزيفة وتفسيرات ضالة؛ لذا يدافع عنها بصورة مفرطة تؤدي إلى أن يستخدم كل من يحاول مقاومته بالقول أو الفعل، ومن ثم يتبنى فكرة الإرهاب في شكلها النفسـي، أو المادي، أو الفكري ضد كل ما يقف حجر عثرة في طريق تحقيق ما يؤمن به من مبادئ يقوم عليها هذا الفكر المتطرف.
وهنا يتوجب أن نواجه جذور هذا التطرف بداية من غرس المعارف والأفكار الهدامة التي من شأنها توجه سلوكيات الفرد بشكل خطأ، وهناك مظهر ينبغي ألا نغفل عنه؛ ألا وهو رفض الإنسان للصواب رغم تبيان شواهده ودلالاته، وإذا ما بحثنا عن السبب تأكد لنا قناعته الفكرية بما جاءت به الجماعات المارقة والمغرضة التي ترى أن الخراب والدمار منهجية للإصلاح مهما سالت دماء وهتكت أعراض وهدمت صوامع وقوضت نهضة وحل الإرهاب بميادين الحياة.
والمنهج الرباني والسنة المطهرة ذكرت صراحة أن العصبية منحى يؤدي إلى الهلكة وأنها أمر مقيت؛ فقد حذر ديننا الحنيف من العصبية بكافة أشكالها، وهذا بيت القصيد؛ حيث إن بناء الأمم وإعمار الأرض يقوم على التفاهم والانسجام والتآخي والتواد وقبول الآخر والتعايش السلمي في إطار جامع يستهدف تحقيق الغاية من الحياة والتي يدركها القاصي والداني.
وهنا نرى أن الوسطية التي تنادي بها جميع العقائد السماوية وفي مقدمتها العقيدة السمحة التي جاء بها خير خلق الله؛ حيث إن الاعتدال وتجنب تجاوز الحدود في شتى الأمور العقدية وحتى الدنيوية من المقاصد الرئيسة التي تنادي به سائر العقائد دون جدال؛ فلا مكان للتشدد ولا موقع للغلو ولا قابلية لصور التطرف وما يتمخض عنه من إرهاب، وديننا الحنيف واضح في دعواه ومنهجه؛ فقد قال تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا [البقرة: 143].
ونحن في أشد الاحتياج إلى أن نعضد ماهية الفطرة التي جبلنا عليه؛ فالدين والتدين يعني انسجام الإنسان مع فطرته وترجمة الأقوال لأفعال بما يؤدي إلى سلامة تفكيره وصحة بدنه وحفظ وصون عرضه ومقدراته، وبما ينعكس إيجابًا في تعاملاته مع الآخرين؛ فيترك الأثر الطيب والغرس الثمين ولا يحمل نفسه أو غيره ما لا يطيق؛ فمن الوسع أن نترك الفرد في ضوء مقدرته على أن يحقق ما يطمح إليه في ضوء ما يتناغم مع النسق القيمي للمجتمع، وبما لا يزيد عن طاقته؛ كي لا يتحمل ما لا يطيق ويصبح على شفا الانهيار النفسي والمادي؛ فما يزيد عن الحد حتمًا ينقلب إلى الضد.
إن البحث عن الأسباب منطلق لوضع علاجات فعالة للتصدي لصور التطرف سواء كان مصدره ديني ولادينى، وأولى اهتمامات البحث والتقصي ينبغي أن تتوغل في جنبات النفس، أو ما يمكن أن نطلق عليها الدوافع النفسية التي تفتح الباب أمام من يعانون مشكلات أو اضطرابات نفسية فيلجئون إلى العنف والتطرف والإرهاب، ومن ثم نؤكد على ضرورة أن نخرج شبابنا من حالة الإحباط واليأس، الذي قد ينتج عن أثر صعوبة تحقيق الأهداف، فيتولد لديهم سخط وتمرد علي الواقع وإسقاط جميع مشاكله علي المجتمع والدولة، وقد يؤدي به ويصل إلى الانضمام إلى بعض التنظيمات الإرهابية والمتطرفة.
ووفي هذا الصدد ينبغي علينا مساعدة الشباب على مواجهة مشاكلهم ومساعدتهم في حلها، وأن نعي أهمية ملء وقت فراغ الشباب بأمور نافعة في كليتها؛ حيث توفير فرص للعمل والقراءة الحرة وصور الأنشطة التي تسهم في تنمية الخبرات النوعية وتلبية الاحتياجات وتجنب كبت الرغبات التي تخلق في النفس عقد سلبية تعد بمثابة محبطات حيال النظرة التفاؤلية للمستقبل؛ فحينئذ يلجأ الفرد لأن يحقق أهدافه الشخصية وإن تعارضت مع النسق القيمي والوازع الديني القويم.
ونشير إلى أن ترك الفرد لبراثن الغي والتطرف؛ حيث ضعف الرعاية في مستوياتها المختلفة والمتواصلة؛ فإن ذلك يعضد لديه شعورًا بالاضطهاد والإهمال، وهذا مكمن الخطورة حيث يزيد من الإحباط وحدة المرض النفسي لديه، وتنتابه العديد من الأمراض التي تزج به في براثن التطرف والإرهاب الأسود؛ فتتعالى لديه أمراض جنون العظمة، والارتياب، والأنانية وحب السيطرة، والنرجسية.
ومن الصعوبة بمكان أن نتجاهل دور المؤسسة التعليمية التي يجب أن تؤدي دورها المنوط بها؛ حيث غرس القيم النبيلة في كافة مناشطها وما تقدمه من خبرات تعليمية مربية، وأن تصقل البنى المعرفية بصحيح المفاهيم التي يتمكن الفرد من أن يفرز الغث من الثمين، والصالح من الطالح؛ فلا يجعل ممرًا لمنحرف الفكر والمشوه منه.
وأيضا الاهتمام بتضمين قيم الاعتدال والوسطية والتسامح في المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية والتربوية، وتشجيع الحوار والنقاش البناء والتفكير النقدي لدى الأفراد، وتعليم المواطنة والانتماء للوطن وقبول الآخر، وإطلاق حملات توعوية وإعلامية لنبذ التطرف والعنف والإرهاب والتحذير من مخاطرهم علي الفرد والمجتمع، والتوجه لعقد شراكات مع المؤسسات والهيئات الدينية والثقافية والاجتماعية لتوفير برامج التوعية والخدمات الإرشادية والدعم النفسي والاجتماعي للأفراد المعرضين للتطرف، ومعالجة قضايا الفقر والبطالة والتهميش ومختلف الأفكار التي قد تدفع للتطرف، وتوفير برامج معالجة لإعادة تأهيل وإدماج المتطرفين بالمجتمع.
وفي ضوء ذلك يلزم أن نضع من البرامج المتضمنة باستراتيجيات مؤسسات الدولة المختلفة ما يسهم في انغماس شباب الأمة المصرية فيما يساعد في صقل المهارات وتعميق الأفهام الصحيحة؛ ليصبح لديه المنعة في أن يدفع عن نفسه وغيره مسببات التطرف الديني واللادينى.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر