تابعت بقلق واندهاش حالة الجدال والاختلاف التي شغلت المجتمع المصري بشأن الاشتباك بين المطرب المشهور والطبيب المغمور في أحد المستشفيات.
عجبت لأسلوب النقاش الحاد بين مؤيدي الأطراف، والذي أحدث صخبا وخلافا وانقساما بلا مبرر يستوعبه عقل رشيد.
ولكن للغضب شؤونه التي تعمي البصيرة كما يقولون، ويحيد بصاحبه في أغلب الأحوال عن الصواب، قولا أو فعلا أو كلاهما. وبمرور الوقت احتدم الصدام بين الأفراد وتطور للمؤسسات، حتى بات تنافسيا عجيبا فيمن هو أهم للمجتمع، وفيمن هي أنفع مؤسسة للناس، بل وتداعت العدائية فيه لبخس تخصص هذا ومهنته وإعلاء تخصص ذاك ووظيفته، وكأنها معركة بين عدوين متنافرين، كل منهما يريد الانتصار على الآخر.
جعلني ذلك أتذكر قصة قصيرة كنت قد تقدمت بها لمسابقة القصة لشباب الأطباء بدار الحكمة في عام 1982. وكان ملخصها أن خلافا نشب بين المخ والقلب، حينما رفض القلب تنفيذ أمر من أوامر المخ التي رأى انه لا يتحملها، فأعاد عليه المخ الأمر بصفته رئيسا للجسم، فإذا بالقلب ينكر عليه تلك الرئاسه، بل ويدعيها لنفسه، فهو الذي يرسل بالدماء لكل خلية في الجسم فلا يمكنها العيش بدونه، وهو ما جعل القلب يدعو أعضاء الجسم لاجتماع عاجل لمبايعته رئيسا للجسم. إلا ان الخلاف تفاقم في ذلك الاجتماع، فقد انقلب إلى تنافس بين الأعضاء جميعا على مقعد الرئاسة، بدعوى أهمية الوظيفة والعمل. ووصل ذلك إلى عراك واشتباك ارتبك له الجسم لانشغال أعضائه عن وظائفهم بخلاف محتدم.
ولم يحسم الامر في النهاية غير المستقيم وهو نهاية الامعاء، الذي ترك مقعده وانسحب من الاجتماع وهو يصيح أنه لن يعود مرة أخرى إلا إذا بايعه جميع الأعضاء رئيسا للجسم !! وما أن وصل لمكانه حتى توقف على الفور عن أداء وظيفته ونام!!. وبمرور الوقت امتلأت الأمعاء بالفضلات لا مخرج لها، فأرسل المخ للمستقيم رسالة ليسمح بمرور الفضلات، ولكن لا حياة لمن تنادي، فلم يستجب لنداء المخ ولا غيره على مدى أيام حتى بدأ الجسم بعاني من التسمم وتبعاته من تهديد حياته، والمستقيم يغط في سبات عميق!!. ولم يوقظه غير صافرات الطوارئ الحياة والموت القصوى التي تدعو جميع أعضاء الجسم للتوجه الفوري لمجلسهم لمبايعة المستقيم رئيسا للجسم !!
واتجه المستقيم للاجتماع، فرحب به الجميع ترحيبا كبيرا، وأجلسوه في الصدارة، وأمامه لوحة مكتوب عليها “المستقيم رئيس الجسم”!!. واستجداه الجميع ليقوم بوظيفته ويدع الفضلات تمر حتى لا يموت الجسم، فاستجاب لذلك وبدأ الخطر يزول تدريجيا وتنفس الجميع الصعداء. وهنا أطاح المستقيم بلوحة رئيس الجسم وصاح: يالكم من أغبياء، جعلتموني رئيسا وأكثركم اهمية وأنا لست كذلك، فلو تجرأ عضو واحد منكم كما تجرأت أنا وتوقف عن أداء وظيفته لانهار الجسم أيضا بطرق مختلفة ولو بعد حين. وما فعلت ما فعلت إلا لأثبت لكم أنه ليس بيننا من هو أهم، بل الكل مهم، ولا يمكن للجسم أن يستغني عن دور واحد لأحد أعضائه مهما كان مكانه، ومهما كانت وظيفته. هيا ارفعوا تلك المنضدة المستطيلة ودعونا نجلس معا حول منضدة مستديرة يتساوى فيها الجميع، والكل مهم وليس بيننا أهم.
وانتهت القصة على ذلك وفازت بالجائزة الأولى، وكانت المكافاة كما أذكر مائة جنيه عدا ونقدا، وهو مبلغ لم يكن بالهين في ذلك الوقت.
نعم قلت في بداية المقال أنني تذكرت القصة بعد اشتباك المجتمع فيمن هو أهم، أهو المطرب المشهور الذي تصرف على أنه الأهم بشهرته؟ أم الطبيب المغمور الذي تصرف على أنه الأهم بعلمه؟ كلاهما كان على خطأ على طول الخط، هما ومن اختلفوا بشأنهما، فلم يلتفتوا لحقيقة أن المجتمع كالجسم تماما بقوانينه، ليس فيه أهم، وإنما الكل مهم بلا استثناء. فالمطرب الذي يطرب القلوب هو مبدع لا غنى عنه يروي وجدان المجتمع بحاجته من الإبداع، وهو امتداد لسابقيه من المطربين الكبار الذين صدحوا بالغناء على مر الأجيال، وكانوا لسان حال فئة لا غنى عنها عبرت عن مشاعر شعب بأكمله كيفما كانت. والطبيب الذي يعالج القلوب هو يد الرحمة التي تمتد حانية بالشفاء، وهو امتداد لأساتذة القلب العظام في تاريخ مصر، وكانوا فئة لا غنى عنها تداوي قلوب شعب بأكمله.
هاتوا لي وظيفة واحدة في المجتمع يمكنكم الاستغناء عنها. لن تجدوا أبدا لأنها ببساطة شديدة لا توجد.
كنت في أيام الصبا ومطلع الشباب أشجع النادي الأهلي غالبا ومغلوبا، وأعيب من يشجعون نادي الزمالك غالبا ومغلوبا، وذلك أيام كان تشجيع الأهلي أو الزمالك هو الشغل الشاغل للناس. وظللت على ذلك حتى نضج الفكر، واتسق الفهم، وأدركت أن كلاهما يصب في خدمة المجتمع. ووجدتني أستمتع وأنحاز لمن يلعب أفضل كيفما كان مسمى النادي أو اللاعب كيفما كان ناديه. أما عن التشجيع فلم أعد أشجع غير فريق واحد مهما كانت حالته قوة وضعفا، وهو الفريق القومي المصري الذي يمثل المجتمع المصري كله.
فهل لنا أن نشجع جميع لاعبي الفريق القومي دون تمييز بينهم، فليس بينهم أهم، إنما الكل مهم بل في غاية الأهمية، هذا إذا شأنا أن نسجل هدفا يصنعه الجميع معا، أو أهدافا يحققها مجتمعنا الذي نعيش فيه سواسية تحقق له الانتصار والتفوق، ويبقى الأفضل بيننا إن شئنا أن يكون هناك أفضل، هو من يقوم بوظيفته على الوجه الأكمل كيفما كان التخصص، فلنكن كلنا كذلك، يا مطرب القلوب ويا حكيم القلوب.
1 سبتمبر 2024
أ.د. توفيق إبراهيم حلمي
أستاذ جراحة المخ والأعصاب
كلية طب بنات الأزهر