” الاسم العلم رمز وتاريخ وابداع “
- بقلم : الباحثة نور بوعزيز _ تونس
- تقديم : مفتاح الحاج _ قناة المنصورة
العراق هو بلد الثقافة والفنون والحضارة …العراق بلد الكتب والكتاب ..والشعر والشعراء،….ومن ابرزهم على الإطلاق الشاعر الكوفي أبو الطيب المتنبي ماليء الدنيا وشاغل الناس
واسمه احمد بن الحسين الجعفي الكندي .
ولد المتنبي في الكوفة في أوائل القرن العاشر في العراق
عام 915 م.
وتخليدا لشاعرهم الكبير اطلق اهل بفداد اسم المتنبي
على شارع كبير بوسط العاصمة اصبح اليوم مشهورا جدا وشارع ثقافي وسياحي بإمتياز .
يوجد شارع المتنبي وسط العاصمة بفداد بالقرب من منطقة الميدان وسارع الرشيد .
ويعتبر شارع المتنبي السوق الثقافي لاهالي بفداد حيث تزدهر فيه تجارة الكتب بمختلف انواعها ومجالاتها وينشط عادة في يوم الجمعة .
ويوجد في الشارع مطبعة قديمة وعدة مكتبات فيها كتب ومخطوطات نادرة .
كما يوجد في شارع المتنبي المركز الثقافي البغدادي
المطل على نهر دجلة .
ايضا يوجد بشارع المتنبي مقهى الشابندر التراثي القديم
وهو من أشهر المقاهي في بغداد في نهاية شارع المتنبي .
هذا الشارع الثقافي الهم شاعرنا اليمني عبد الباسط الصمدي وكتب قصيدته المميزة ” في شارع المتنبي .
أما الباحثة والناقدة التونسية نور بوعزيز فقد تفاعلت
مع نص عبد الباسط الصمدي وكتبت قراءة تحليلية نقدية ثرية نترك لكم متعة القراءة والمتابعة .
لأنّ حواسّ الشّعراء تعشق حبر الكتابة، وتألف زرقة السّماء في فضائها الفسيح، فقد نصّبوا الألوان وأسماء الأعلام أمراء على سقف قصائدهم. ولأنّهم مؤمنون بأنّ أجمل الأقدار تلك الّتي تغمرنا صدفة. وتثلج صدورنا فجأة.
فتنجب من خريف أحزاننا شبلا عربيّا مزدانا بألوان الرّبيع والصّيف. فقد واصل شعراؤنا المعاصرون إدراج “أسماء الأعلام” في مستهلّ قصائدهم، وقد توشّحت قصيدة الشّاعر اليمنيّ “عبد الباسط الصّمديّ” باسم علم يعدّ رمزا تاريخيّا وعلما من أعلام الأدب العربيّ في القرنين الرّابع والخامس للهجرة. ألا وهو “أبو الطّيب المتنبيّ”
الّذي لُقِّب ب “شاعر العرب”، ووُصِف ب “نُدرة زمانه”
. بيد أنّ السّؤال الّذي يدغدغ حواسّنا قبل الولوج إلى ثنايا القصيدة ما علاقة اسم العلم باللّون والفضاء؟
ونحن نقف على أوّل عتبات القصيدة ألا وهو العنوان الّذي يعدّ "عنصرا أساسيّا لتوجيه القراءة، باعتباره أوّل
ما يتمّ تبئيره على واجهة المتّلقّي(…) فالقارئ وهو يستعين بتوجيه العنوان يفتح آفاق انتظار خاصّ، ويبرمج قراءته بناء على الدّلالات الأولى المتسرّبة من واجهة التّلقّي (1) في النّقد الأدبيّ الحديث. فقد ورد عنوان هذه القصيدة الّتي أغرتنا بتحليلها، واستنطاق نصّها، ونبش خباياها مركّبا بالجرّ”
في شارع المتنبّي”. وقد جاء الجارّ حرف جرّ” فِي” وأفاد الظّرفيّة المكانيّة؛ في حين دلّ المجرور الّذي جاء مركّبا إضافيّا” شارع المتنبيّ” على اسم شارع سلكه الشّاعر لعلّه يرسم بعض ملامح المجتمع العربيّ، ويدافع عن مقدّسات تحتضر وهو يبحث عن هويّته. وإذا ما عدنا إلى “علم العنونة “وقمنا بالتّنقيب على أهميّة العنوان للنّتاج الأدبيّ فإنّنا نستنتج منذ البداية بأنّ العنوان يعدّ لدى جمهور النّقّاد ” مفتاح علم الكتاب، إن لم يكن بابه الرّئيسي” (2).
ومن هذا المنطلق، واستنادا إلى تحصيلنا العلميّ والأدبيّ
فإنّ اسم المتنبيّ قد احتفت به أغلب البلدان العربيّة وأطلقته على شوارع مدنها. بيد الّذي استوقفني
في هذا العنوان هو محاولة الشّاعر اليمنيّ “عبد الباسط الصّمدي ” الإشارة أوّلا، إلى الشّارع البغداديّ الّذي يقع في وسط العاصمة العراقيّة بغداد. وتحفيز المتلقيّ للإقبال على اكتشاف أسرار هذا الشّارع الّذي يعدّ السّوق الثّقافيّ لأهل بغداد وزوّارها لما يحتويه من كتب بمختلف أنواعها ومجالاتها لإحياء قيمة العلم ونور المعرفة في زمن الرُّوَيْبضة. والإشارة ثانيا، إلى الشّاعر العربيّ ومكابدته لتخليد اسمه بسلطة الكلمة وحسام الحرف.
ولعلّ هذا الجناس بين كلمتيْ “شارع” وشاعر” يفتن الحِجا بتقصّي أحداث الحكاية في متن القصيدة الّتي احتوت
على ثلاث وحدات.
الوحدة الأولى شملت الأبيات الأربعة الأولى، وأعلن فيها الأنا الغنائيّ عن حدث انتظاره قافلة الفرح وما رافقه من أحداث أخرى.
في حين امتدّت الوحدة الثّانية من السّطر الخامس
إلى حدود السّطر الثّالث عشر؛ وفيها وصف للقافلة ولأحاسيس الشّاعر الفيّاضة.
في حين تضمّنت الوحدة الثّالثة بقيّة النّصّ الشّعريّ، وكشفت فيها الذّات المتلفظّة في حوار ثنائيّ عن مشاعر العاشقين وهما يبوحان لبعضهما بمشاعرهما وأفكارهما.
وإذا ما قمنا بمقارنة هذه المقاطع فإنّها اتّفقت في كونها مثّلت الأجزاء الرّئيسة من جسم الإنسان [الرّأس، الجذع، الأطراف]، واختلفت في نمط الكتابة الّذي جاء متراوحا
بين السّرد فالوصف ثمّ الحوار. ليتجلّى لنا أنّ بنية القصيدة حاملة لهيكل الشّاعر الّذي استعمل فضاء “الشّارع”
الّذي يحمل دلالتي الاتّساع والضّيق ّاستعمالا رمزيّا لعدّة معان يريد تمريرها؛ وسنقف عند هذه المعاني تباعا.
فحينما نعود إلى تعريف “شاكر النّابلسي” لفضاء الشّارع قائلا: “هو المصبّ الّذي فيه اللّيل والنّهار وأشغالهما وتجلّياتهما،
فهو المسار، والمصبّ في آن واحد”(3). هذا يعني أنّ الشّارع فضاء يتميّز في الغالب بالحريّة المطلقة، وهو المحتضن لكثير من الأحداث الّتي أشارت إليها هذه القصيدة. ويظلّ السّؤال الّذي يؤرق فكرنا كيف تعامل الشّاعر مع شارع المتنبيّ
في رحلة الحياة الّتي تحدّد المصير الإنسانيّ؟
ما يتّفق عليه أغلبيّة شعراء العصر الحديث والنّقّاد كون قضيّة الشّعر العربيّ الحديث " قضيّة حيويّة" تجبر الشّاعر العربيّ الحديث والمعاصر من البحث عن أصالته المعاصرة في غضون استرجاع الأصالة العربيّة التّقليديّة الّتي تربطه بأرضه وزمنه حتّى تتمكّن الذّات المبدعة من وضع إصبعها على مواطن الانزياح وبذلك تحدّد هوّيتها الجديدة
دون التّملّص من أصداء الأصل. لذا اِستهلّ “شاعر اليمن” قصيدته بالإقرار بحدث الانتظار” لَقدْ انتظرتُ” الّذي أعقبه حدث مأساويّ وهو الإنذار بزوال شبابه “خَطَّ الشّيبُ رَأْسِي”.
فكأنّ الشّاعر بهذا يعكس تجربة وجوديّة عاشها متأمّلا ومتألّما، وهو يتخبّط فيها بين الحياة [مرور قافلة الحبّ] والموت [مرارة الانتظار]. وتبدو مفردة “زَمَانًا” تُميط اللّثام
عن الفجوة بين الأحداث المحزنة زمن الانتظار [تحملّ الحزن والمشقّة والصّبر على المكاره] وما سيحصل عند مرور قافلة الحبّ. لتدفع بالذّات المنشئة نحو وصف أحاسيسها تزامنا
مع رؤيتها لهذه الجَمهرة الّتي أعادت لها حركيّتها ونشاطها وإقبالها على معانقة نور الحياة.
” فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصَّيْفِ رَأَيْتُهَا”
بِضَوْءِ النَّهَارِ كَأَنَّهَا قَمَرٌ فِي اللَّيْلِ
بَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي بَدَتِ الظِّلاَلُ جَمِيلَةً”
تبدو ذات الشّاعر واعية باستعراضها لهذه الصّورة الحيّة واختيارها فصل الصّيف الّذي يعدّ درّة الفصول؛ وفصل بداية الرّحلة الحياتيّة. علاوة على ذلك، فهو فصل استرجاع الزّمن الجميل لكونه يعدّ فصلا مميّزا بكلّ طقوسه وألعابه (4)، (ويمكّنها من الاستمتاع بطول النّهار في شارع يتّسم بالحركيّة والانفتاح وتبادل الآراء.
وهذا ما أتاح للأنا الغنائيّ توظيف صيغة الماضي “رَأَيْتُهَا، تَمْشِي، بَدَتْ” للتّعبير عن غبطته، وقد أردفها بمعجم الحياة والطّبيعة “الصّيف، النّهار، قمر، الظّلال، جميلة” إلى جانب بوحه بأغوار نفسه، وذلك من خلال التّكرار اللّفظي لعبارة “أسررتُ لها” الّذي عدّ فاصلة إيقاعيّة داخل المقطع الثّاني
من القصيدة من شأنها أن توجّه المتلقّي نحو ما يريد الأنا الغنائيّ التّلميح له أو إيصاله له، ودلّ على انشراح النّفس ونفسها التّفاؤليّ في عمليّة تجاذب متواصلة بين الواقع
“هِيَ تَمْشِي”، والمتخيّل:
“…عَرَفْتُ قَلْبَهَا
مِنْ حُرُوفٍ كَتَبَتْهَا ابْتِسَامَتُهَا
بِقَلْبِي وَوَرِيدِي”
ولأنّ الشّاعر رسول عصره، والحالة النّفسيّة للذّات المنشئة للخطاب تتوق إلى نسائم الحريّة والإبداع الفكريّ، فإنّ ما يسرّها هو التّجوّل في شارع فريد قصد اكتساب المعارف، بل يتجلّى "شارع المتنبيّ" ملاذا لكلّ ذات توّاقة للتّحرّر من براثن القيد والجهل والرّتابة. فقافلة الحبّ
الّتي أيقظت هواجس الشّاعر وعواطفه مرّت
من شارع المتنبيّ،
بل غدت عنصرا فاعلا في رسم ملامح هذا الفضاء الدّلاليّ الّذي يعدّ رمزا من رموز الهويّة العربيّة.
لذا أطنب “شاعر اليمن” في الدّنوّ من هذه المرأة،
وأبدع في تشكيلها على فضاء قصيدته؛ قائلا:
“بَعْدَمَا أَسَرَتْ انْتِبَاهَ القَلْبِ”
ولمّا أضحت القافلة جزءا من الشّارع فقد ابتكر الأنا أساليب جديدة بحثا عن كينونته. لذا تمّ إدراج جسد الذّات" قلبي، وريدي، رأسي" وتكريس الرّؤية الرّومنطيقيّة الفرديّة لإبراز المكانة المرموقة الّتي يحتلّها الأنا، وقد أثبتها تواتر الأفعال الملتصقة بالأنا والدّالة على الحركة" تَرَكْتُ، مَشَيْتُ، كتبتُ، شَيَّدْتُ". وللإشارة فإنّ الفضاء الدّلاليّ/ الشّارع تتمظهر تجلّياته عن طريق الفواعل الّتي تتحرّك فيه وتتأثّر به.
وهو نقطة عبور نحو أفضية أخرى. فقد خلق الأنا الغنائيّ
في المقطع الأخير من القصيدة بعد أن عيّن نفسه وموقعه حوارا ثنائيّا ” تَقُولُ/ قُلْتُ” بينه وبين المرأة الّتي صفدت قلبه. وهذا نصّ القصيد:
” بَعْدَمَا أَسَرَتْ انْتِبَاهَ القَلْبِ
جَاءَتْ تَقُولُ لِي مَنْ هِيَ
الأَجْمَلُ بَيْنَ نِسَاءِ الأَرْضِ
وَهَلْ فِعْلاً قَلْبُكَ يُشْبِهُ قَلْبِي
قُلْتُ لَهَا يَا امْرَأَةً”
في هذا المقطع الحواري، تبرز الحروف الشّفويّة
” ب، و، ف، م” معاضدة لهذا الحوار الشّفويّ [ قلتُ/ قالتْ] الّذي يضع هذه المرأة كشخصيّة محوريّة جلبت انتباه الشّاعر رغم أنّ الفضاء الّذي جمعهما هو شارع المتنبيّ.
وكان من الأجدر وصف الكتب والمجلّات الّتي تفترش
جلّ أركان الشّارع عوض رسم ملامح امرأة نكرة.
لكن ما الّذي يجمع بين الشّاعر وهذه المرأة
في هذا الشّارع المشهور؟
عند العودة إلى عبارتيْ "قافلة الفرح" و "قافلة الحبّ" وربطهما بعبارة "نساء الأرض"، فإنّهما يرمزان إلى المرأة
في رحلتها الوجوديّة. هذه المرأة الّتي تحرّرت من القيد المسلّط عليها قديما، وخرجت إلى الشّارع لتعلن حريّتها،
وتشارك الرّجل في إبداعاته وإنجازاته، بل وتنافسه في النّتاج الأدبيّ. ولعلّ الاستفهام الإنكاريّ ” وَهَلْ فِعْلاً قَلْبُكَ يُشْبِهُ قَلْبِي” الّذي جاء في منتصف القصيدة، يكشف عن قوّة الرّابطة العاطفيّة بين المرأة والرّجل. فالّتي أسهمت في إعمار الأرض امرأة، ومَن أنجبت الشّعراء امرأة، ومَن ألهمت الشّعراء لكتابة قصائد غزل وحبّ امرأة. إذن فالمرأة سرّ الحياة،
وسبب حلاوة العيش وجمال الكون. فهي الّتي ألهمت الشّاعر لقول الشّعر، والكشف عن إحساساته الدّفينة قائلا:
” أَنَا لَمَّا قَرَّرْتُ أُحِبُّكِ تَرَكْتُ
حِسَابَ الحُبِّ بِالقَلْبِ جَار
وَمَشَيْتُ فِي حُبّكِ كَثِيرْ”
ولعلّ اختيار الشّارع كفضاء للتّعبير عن عواطف الحبّ والفرح من قبل الذّات المتلفّظة له ما يبرّره. فالعدول
عن وصف هذا الفضاء، والاهتمام بتقديم صورة المرأة
في حلّة جديدة حملت معاني الدّفء والعشق والأنوثة.
لأنّ اللّقاء الحميميّ في مخيّلة الشّاعر العاشق مع هذه المرأة الاستثنائيّة الّتي وصفت نفسها بعبارة ” الأجمل بين نساء الأرض” يستوجب فضاء يتّسم بالاتساع والامتداد من بغداد إلى القيروان.
بيد أنّ لغة الأنا الغنائيّ خلقت هوّة بين المدلول الحقيقيّ والمدلول المجازيّ، ففغدت الدّلالة دلالات يتمّ إدراكها عبر العلاقات الّتي يشكّلها الذّهن. هذا يعني أنّ فضاء الشارع
في القصيدة احتضن كلّ مقوّمات الكتابة الشّعريّة من خيال وعاطفة وفكرة وأسلوب. في المقابل تجلّى الحيّز الضّيق [عينا المرأة] محتضنا الفضاء المكاني المنفتح [القيروان]،
فتولّدت المعاني لتشكّل هذا المقطع الشّعريّ الطّريف:
“وَلَمّا بدتْ بالقيروانِ عُيُونُكِ
كتبتُ للفرحِ قَصَائِدَ تراهَا
أَعينُ وبيوتٌ وَشَيّدتُ بيوتًا
يَحُفّها ثَلْجٌ وَجَلِيدْ”
فالصّورة الشّعريّة المحدثة تتمظهر في تقريب المسافات بين مدينتين لهما سمات مميّزة احتضنهما شارع المتنبّي، تحديدا في ملامح امرأة. وهنا يجب على النّاقد المتمرّس
أن يحطّ رحاله، ويستحضر الماضي التّليد، زمن كانت مدينة القيروان العاصمة السّياسيّة للمغرب الإسلاميّ ومركز الثّقل فيه. وهي المدينة الّتي كانت خير مناصر ومساند للخلافة العبّاسيّة ببغداد. إذن، فالمغزى من اجتماع بغداد والقيروان في قصيدة واحدة هو محاولة جريئة من الذّات الشّاعرة
أن تذكّر القارئ العربيّ بأمجاد الأمّة العربيّة والإسلاميّة
في ظلّ الحرب والحصار المتوّق على القدس وبيروت.
وأن تحفّزه على النّهوض ثانية من أجل إعادة البناء “
وَشيّدتُ بيوتا”. وقد احتدم فعل البناء بفصل الشّتاء لكونه “الأب الأكبر للفصول الأخرى”. وقد لمّحت له الذّات المتلفّظة من خلال لفظتيْ “ثلج وجليد” للدّلالة على معان كثيرة منها: التّفاؤل بغد أفضل لأنّ الخير الّذي يحمله فصل الشّتاء سيمحو عن الأفئدة أسى الأيّام الثّقال، ويحييها من جديد. وقد كان الشّاعر أوّل العازفين لحن الحياة
من أجل عيون جميلته.
وقد اعتمد الأسلوب الإنشائيّ الطّلبيّ النّداء ” يا امرأة”
في ختام قصيدته لاستنهاض الهمم وتحمّل المسؤوليّة. فنداء المرأة يبدو في الحقيقة هو نداء لبغداد السّاحرة والصّامدة، ودعوة لكلّ الشّعوب العربيّة النّائمة للنّهوض من سباتها وفقرها وعجزها، والمطالبة بحقوقها المشروعة؛ واسترجاع ثرواتها المنهوبة. فاختار الشّاعر أن يذكّرنا بجمال بغداد ماضيا، ويلمّح لانهيار أحلامنا وضياع أمننا حاضرا، قائلا:
” جَمِيلَةٌ أَنْتِ يَا امْرَأَةً
وَقَلْبُكِ أَحْلَى مِنْ قَلْبِي”
من خلال هذين السّطرين، يبدو أنّ الشّاعر قد لبس ثوب الفارس المقنّع، واستدعى مفردة "امرأة" استعارة لبغداد
حتّى يذكّر الأمّة العربيّة بضرورة الدّفاع عن مقدّساتها وحقوقها كي نشعر بالانتماء والأمان، لأنّ العبث وطمس
فضل الحضارة العربيّة والإسلاميّة على الإنسانيّة
وعلى التّقدّم العلمي والتّقنيّ جريمة في حقّ الشّعوب العربيّة جعلها تعيش الشّتات والتّهجير والصّراعات الدّمويّة.
إنّ الغاية القصوى من رحلة الشّاعر "عبد الباسط الصّمديّ" في شارع المتنبيّ" هو وصف لتجربة، وتعبير عن مواقف سياسيّة ووجوديّة، وإحالة على البحث عن الفردوس المفقود، واستدعاء للزّمن الجميل حتّى نزيح عن ذواتنا وشاح الاغتراب والوحشة الّذي التصق بنا لعقود من الزّمن. وأمام عجز الإنسان المضطهد، صرخ الشّاعر صرخة المقاوم المدافع عن هويّته والمتمسّك بجذوره، فنظم شعرا أَعتبره بداية الانطلاق صوب رحلة الخروج من عنق الزّجاجة.
وإذا ما عقدنا الصّلة بين عنوان القصيدة ونهايتها فإنّ الشّاعر يبدو متمسّكا بهويّته العربيّة تزامنا مع إعلان مدى حبّه لمدينة بغداد قائلا:
” حُبُّكِ قَدَرًا جَمِيلاً
وَكَانَ هُوَ القَرَارُ الصَّائِبُ
وَعِشْقِي لِعُيُونكِ
يَعْسُرُ بِبضعِ يَوْمِ قَلْبِي بِشَرْحِهِ”
نستطيع الإقرار في ختام هذه القصيدة بأنّ المدن العربيّة مثل بغداد أو القيروان وغيرها عبر التّاريخ تعدّ جزءا من وجدان الفرد. وقد تنافس الشّعراء في التّغنيّ بها ماضيا وحاضرا. ما أتاح الفرصة للشّاعر "عبد الباسط الصّمدي"
أن يستدعي رمزا تاريخيّا ليوثّق تاريخ العرب الحافل بالإنجازات والانتصارات. فوظّف اسم العلم “المتنبيّ”
في عتبة قصيدته ليكون بمثابة المحور الّذي أغرى الشّاعر والقارئ والنّاقد من الالتفات حول تقصّي مميّزات الشّارع
في متن القصيدة، وما حمله من ألوان ودلالات وقضايا شائكة. وهنا يمكن أن نستشفّ من ثنايا هذه الأسطر الشّعريّة بأنّ لسان الشّاعر يردّد: لا مكان للانتظار والحزن والأسى
في شارع المتنبيّ. فحينما تطأ قدمك شارع المتنبّي الشّهير، تغمرك البهجة والسّعادة وتشعر بأنّك حرّ في فضاء يحتضن نتاجات الألسن الحرّة والعقول المفكّرة. فتحاول بكلّ قواك نزع ثوب الجهل والتّبعيّة العمياء لتوسّع مداركك فتعانق مشارق الأرض ومغاربها؛ وقد تلمح بعينيك جذوة الإبداع النّسويّ قبل شعلة الابتكار الرّجاليّ.
نستخلص في النّهاية، بأنّ القصيدة هي حكاية لسيرة ذاتيّة راوغ من خلالها الشّاعر المتلقّي بغية إعادة قراءة التّاريخ بأبعاده الثّلاثة. فالمتنبّي هو قناع للذّات الملتصقة بمكانها الأصليّ، بجذورها ومقدّساتها، المبدعة الرّاغبة
في الثّورة والمتمرّدة على الجمود الفكريّ، والباحثة عن تراث أمّتها في ظلّ التّغيّرات الطّارئة والمهدّدة لما يتماشى مع روح العصر. والمستشرفة لمصير المنطقة العربيّة في ظلّ ما يشهده العالم من قلق وجوديّ وحروب ضارية وانتظار مرير.
هذا يعني أنّ القصيدة كانت فضاء أتاح للشّاعر أن يشحنه برؤاه ومواقفه لمعالجة الوضع الرّاهن بالدّعوة إلى النّضال والصّمود أمام الاكراهات والاقصاءات، وذلك بتوحيد الصّفوف من أجل خلود الأمكنة، لأنّ اندثارها وفناءها موت وخسارة للذّات الخلاّقة، الذّات الّتي صنعت مجدها بهوس الكتابة إيمانا منها بأنّ الكتابة تسكن الكاتب وتعبّر عن جروحه الغائرة. وفي هذا إقرار بقوّة الكلمة في التّصدّي
لكلّ المؤامرات الّتي تحاك في الخفاء ضدّ الشّعوب العربيّة.
وبالتّالي فإنّ بداية التّحرّر تبدأ من سلطة الذّات في إثارة المسكوت عنه بقوّة العاطفة الّتي استلهمت من حدث الانتظار قصيدة مزجت بين الماضي والحاضر، بين الشّعر والرّسم،
بين الألم والأمل.
في الختام، أجدّد تحيّتي لصديقي الشّاعر "عبد الباسط الصّمدي"، وأقول له بقدر مهارتك في مراوغة المتلقّي،
فقد كان شعرك بمثابة رسالة غراميّة بطلها الأنا الفرديّة
في تحويل معاناتها إلى نتاج أدبيّ جدير بالتّحليل والنّقد.