مر عام على انطلاق طوفان الأقصى، ذلك الحدث الاستثناني الذي غير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط، وما زال يغيره بما يعتمل فيه من تفاعلات قد تتجاوز نتائجها كل التوقعات، كان حدثا غير مسبوق في ذاكرة إسرائيل، أذل كرامتها وأهان كبرياءها، وأثبت لها وللعالم أجمع أن الشعب الفلسطيني لن يستسلم للحصار والعدوان المستمر على أراضيه ومقدساته، وسيدافع عن حقه في الحياة وفي الحرية، وأن الإسرائيليين لن يهنأوا بما اغتصبوا من أرض، ولن ينعموا بالأمن والاستقرار، ولن يحققوا حلمهم بإسرائيل الكبرى.
ولكي لا ننسى، ففي يوم السابع من أكتوبر 2023 كسرت فصائل المقاومة في غزة جدار الصمت، وأطلقت صواريخها على بعض البلدات الواقعة جنوب الأرض المحتلة، واخترق مقاتلوها الحاجز الأمني لإسرائيل بالدراجات الشراعية، واقتحموا مستوطنات غلاف غزة، كان الهجوم مباغتا فأذهل العدو وشل حركته، وبحلول نهاية اليوم كان أبطال المقاومة قد قتلوا حوالي 1200 إسرائيلي، وأسروا 251 مستوطنا من الذين جاءوا من الشرق والغرب ليسرقوا أرض فلسطين ومقدرات أهلها.
كانت الصدمة شديدة على جيش الاحتلال والاستخبارات والسياسيين، الذين لم يتوقعوا هجوما مثل هذا يمكن أن يأتي من غزة، ربما كانت هناك إشارات على أن انفجارا ما سوف يحدث في القدس والضفة الغربية، بسبب غياب الأمل لدى الفلسطينيين، ومصادرة منازلهم وأراضيهم وممتلكاتهم، والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، لكن غزة كانت خارج التوقعات، لذلك جاء الرد الإسرائيلي شرسا عنيفا، وإبادة جماعية حقيقية، قتل فيها الاحتلال ما يقرب من 42 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، ودمر المنازل والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات، وخرب الزراعات، ثم استدار إلى الضفة الغربية وارتكب فيها الجرائم نفسها دون أن ينجز شيئا من أهدافه المعلنة، ودون أن يحقق النصر المطلق الذي وعد به، فنجح كقاتل لا كمقاتل، وما زالت المقاومة تحارب بجسارة إلى اليوم، وتضرب بصواريخها قلب تل أبيب وغيرها من المدن، وتكبد العدو خسائر فادحة في كل أرض تطأها أقدامه.
كانت تقديرات إسرائيل أن الحرب في غزة ستكون نزهة سريعة تستعرض فيها أسلحتها الفتاكة وقدراتها الفائقة، وتقضي فيها على المقاومة قضاء مبرما، عسكريا وسياسيا، فلا يكون لها صوت بعد ذلك، وتصبح هي طليقة اليد في فلسطين، وفي المنطقة بأسرها، لكن الذي حدث أن غزة تحولت إلى فخ كبير لجيش الاحتلال، دخل إليه ولم يخرج حتى الآن، ثم تحقق الكابوس الذي كانوا يخافون حدوثه، وهو اتساع رقعة الحرب لتشمل لبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران.
لم تعد إسرائيل كما كانت قبل السابع من أكتوبر 2023، فهي اليوم دولة جريحة بسبب عدد ضحاياها الكبير، وعدم قدرتها على حسم الحرب، ومظاهرات أسر الرهائن المستمرة، ونزوح مواطنيها من مدن الشمال، وانكشاف مجالها الجوي أمام الصواريخ الآتية من الغرب والشمال والجنوب، ونزوع أعداد كبيرة من سكانها إلى الهجرة للخارج طلبا للأمن، يضاف إلى ذلك صراعات السياسيين والمتطرفين الدينيين، وامتناع أعداد متزايدة عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، واتهام رئيس الحكومة بإطالة الحرب لأسباب سياسية خاصة به، وليس لأسباب عسكرية، وتهديده بالسجن في تهم فساد خطيرة فور أن يغادر السلطة.
وعلى الصعيد الدولي صارت إسرائيل دولة منبوذة، ساقطة أخلاقيا، وخارجة على القانون، ومدانة بقرارات محكمة العدل الدولية، ومهددة بقرارات المحكمة الجنائية الدولية، وفي كل يوم يزداد خصومها ومنتقدوها في العالم، وتخرج المظاهرات الشعبية والطلابية تندد بجرائمها، ومؤخرا تورط جيش الاحتلال في إطلاق النارعلى قوات حفظ السلام الدولية في لبنان (اليونيفيل) مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى توبيخ إسرائيل صراحة، بينما تهدد المقاومة العراقية بحرمان العالم من النفط لصمته على الجرائم الإسرائيلية.
وطوال العام الماضي دأبت أبواق الدعاية الصهيونية على تصوير الصراع في الشرق الأوسط باعتباره صراعا مع إيران ( الشريرة)، واتهام المقاومة بأنها ذراع لإيران، متجاهلة تماما القضية الفلسطينية، ورافضة لأي حديث عن حقوق الشعب الفلسطيني وحل الدولتين، الأمر الذي أكد للعرب وللفلسطينيين أكذوبة السلام، وحتمية المقاومة، ولذلك أظهرت استطلاعات الرأي أن الأغلبية الكاسحة من مواطني غزة والضفة الغربية صاروا مؤيدين بالكامل لخيار المقاومة، وداعمين لنضالها، وأصبحت إسرائيل أمام جيل جديد من الفلسطينيين، جيل صارم، يمكنها أن تقتله، لكنها لن تغير معتقده.
لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا لطوفان الأقصى، وتحمل تبعاته من أجل إحياء قضيته، لكن الإسرائيليين أيضا دفعوا ثمنا باهظا، وخسائرهم فادحة، وإن لم يعلنوها كاملة في بياناتهم فإن شهادات كبرائهم تفضحهم.
يقول الجنرال احتياط تسفيكا فوغل، القائد الأسبق للمنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي: “إن الوضع الأمني الذي تعيشه إسرائيل يعتبر الأكثر إذلالا لها منذ حرب 1973، يكفي أننا لانستطيع اليوم حسم المعركة مع حماس”.
ويقول الجنرال احتياط إسحاق بريك: “إن الجيش الإسرائيلي ينجح في تدمير المباني، لكنه لم يتمكن من هزيمة المقاومة التي استعادت قوتها، لقد حان الوقت للاعتراف بأننا خسرنا، وأن استمرار الحرب لن يحقق النصر، بل على العكس ستكون هزيمة إسرائيل أكثر إيلاما، وإذا لم يكن لدينا القدرة على هزيمة حماس، فمن المؤكد أننا لن نتمكن من هزيمة حزب الله المسلح بـ 150 ألف صاروخ وقذيفة وطائرة بدون طيار”.
أما رئيس الشاباك السابق عامي آيلون فقد اعترف بالحقيقة التي يتهرب منها الإسرائيليون قائلا: “إن الشعب الفلسطيني يحلم بالحرية ولا يحصل عليها، لأننا نتحكم في حياته، ولو كنت فلسطينيا فسوف أقاتل ضد إسرائيل من أجل أن أكون حرا، وأفعل أي شيء لأجل تحقيق حريتي”.