كانت مدينة القنيطرة هي مهد طفولتي، حيث وُلدتُ في أسرة عاشت تحديات كثيرة، من بينها غياب والدي عن حياتي منذ أن كنت طفلًا رضيعًا. انفصل والدي عن والدتي عندما لم يكن عمري سوى سنة واحدة، ومنذ ذلك الحين، حملت والدتي عبء تربيتي وحيدة، ترافقها في تلك الرحلة الطويلة والمريرة جدتي امباركة، تلك المرأة الأمية البسيطة التي جمعت في قلبها الحكمة الدينية والصبر الجميل.
عشتُ طفولتي في بيت مليء بالتحديات، لكن رغم الفقر وقلة الحيلة، كانت القيم والأخلاق هي الحصن الذي نحتمي به. كانت والدتي تسهر الليالي، تعمل جاهدة لتوفر لنا لقمة العيش، وكنا نعيش على أمل أن يتبدل حالنا للأفضل. في تلك اللحظات العصيبة، كانت جدتي دائمًا ما تردد كلمات تطمئن القلب، تستمدها من إيمانها العميق بالله، وتحثني على التوكل والاعتماد على الله كما جاء في الآية الكريمة: “وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ “. فكانت تقول لي: “يا بني، إن الله لا ينسى عباده، وما من ضيق إلا وبعده فرج.”
ورغم أنني كبرت في غياب الأب، وجدتُ في جدتي وأمي سندًا، فقد كانتا تمثلان لي القوة والأمان. جدتي امباركة، رغم أميتها، كانت تحمل حكمة تعادل مكتبات كاملة. علمتني الصبر، وكانت تذكرني دومًا بكلمات الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “الصبر هو المرآة التي تعكس الحكمة”. وكانت تؤكد أن الحياة مليئة بالاختبارات، وأن الصبر هو مفتاح اجتيازها، وأن التوكل على الله هو السبيل للنجاة في أصعب اللحظات.
كبرت وأنا أحلم بشيء أكبر، بشيء يتجاوز حدود البيت والمدرسة. كان البحر هو ملاذي منذ الصغر؛ كنتُ أجد فيه حريةً وراحةً تعوضني عن كل ما فقدته. كان حبّي للسباحة يزداد كلما زرت شواطئ القنيطرة، وكنت أشعر كما لو أن الأمواج تحمل لي أسرار الحياة، تهمس في أذني أن عليّ ألا أستسلم مهما كانت الظروف. وكان هذا الشغف بالبحر يتنامى في نفسي، خاصة في فترة الإعدادية عندما بدأت أفكر في الالتحاق بالقوات البحرية الملكية المسلحة.
لكن القدر لم يكن رحيمًا بي. تعثرتُ في دراستي بسبب الظروف الأسرية القاسية، وأصبحت شابًا عاطلًا، أبحث عن فرصة عمل تسد رمقي. كنت أتجول في أسواق الملابس المستعملة، أشتري بقايا الأيام البالية بثمن زهيد، وأغسل عني غبارها في الحمامات الشعبية. في تلك اللحظات القاسية، تذكرت كلمات الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”. شعرتُ بأن كل تحدٍ أواجهه هو مجرد اختبار آخر لصلابتي.
ثم جاء اليوم الذي شعرتُ فيه بأن الأمل عاد ليشرق في حياتي. أعلنت القوات البحرية الملكية المسلحة في منتصف الثمانينات عن فتح مباراة للالتحاق بصفوفها. كان هذا الإعلان بالنسبة لي كضوء ساطع في ليل حالك. كان حبّي للبحر وشغفي بالسباحة دافعين قويين لاتخاذ القرار. قررتُ أن أغتنم هذه الفرصة، وأصبحت كمن رأى في الأفق أملًا بعيدًا ولكنه ممكن. استذكرت كلمات الفيلسوف الصيني لاو تزوه: “إذا أردت أن تكون قويًا، فعليك أن تتدفق كالماء.”
استقللتُ القطار برفقة أصدقائي من القنيطرة نحو الدار البيضاء، حيث كانت المباراة تُعقد. كنا مجموعة من الشباب، نحمل أحلامًا ثقيلة وآمالًا كبيرة، رغم قلة المال وضيق الحال. جلسنا في مقهى بسيط بالقرب من ثكنة البحرية في المدينة القديمة، نحتسي أكواب الشاي الساخنة ونتحدث عن المستقبل كما لو كان ملكًا لنا. كانت كلمات الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي دائمًا في ذهني: “الرجل يمكن أن يُدمَّر، لكنه لا يمكن أن يُهزم.”
قضينا الليل في حديقة صغيرة، نراقب السماء المرصعة بالنجوم، نتبادل الأحاديث ونحلم بغدٍ أفضل. ومع بزوغ الفجر، توجهنا نحو الثكنة العسكرية، وكانت الصفوف طويلة. وقفنا بين جموع الشباب، مشدودين بالحماس والتوتر، متطلعين إلى فتح أبواب المستقبل. وكما قال الكاتب الإيطالي دانتي أليغييري: “الطريق إلى المجد ليس سهلاً، لكنه يستحق المحاولة.”
لكن حلمي تحطم على صخرة الواقع. أُغلقت بوابة الثكنة بعد أن اكتمل العدد، وتركتُ واقفًا خارجًا مع كثيرين غيري، نعود بخفي حنين. شعرتُ بأن العالم بأسره تآمر عليّ، كأن كل شيء انهار فجأة. عدت إلى المدينة القديمة حيث كانت خالتي عائشة تنتظرني. استقبلتني بابتسامة، وربتت على كتفي بحنان الأم وقالت: “يا بني، قد تكون الأبواب تُغلق أمامك الآن، لكن الله سيفتح لك أبوابًا أخرى. المهم ألا تيأس.”
تلك الكلمات كانت درسًا جديدًا في الحياة، وتعلمت أنني يجب ألا أسمح للفشل أن يسيطر عليّ. بدأتُ أبحث عن عمل بكل طاقتي، وعملت في كل وظيفة أجدها، مهما كانت متواضعة. كانت عزيمتي تتزايد، ومع كل يوم يمر، كنتُ أتعلم درسًا جديدًا في الصبر والتحمل. تذكرت مقولة الزعيم السياسي البريطاني ونستون تشرشل الشهيرة: “النجاح هو القدرة على الذهاب من فشل إلى فشل دون فقدان الحماس.”
ربما لم أكن جنديًا بحريًا كما كنت أحلم، لكنني أصبحت جنديًا في معركة أكبر، معركة الكفاح اليومي من أجل الكرامة والشرف. بدأت أدرك أن النضال في الحياة لا يتطلب سلاحًا ولا زيًا عسكريًا، بل يتطلب إرادةً قوية وقلبًا لا يعرف اليأس. كما قال الكاتب الأمريكي رالف والدو إمرسون: “القوة الحقيقية ليست في الانتصار، بل في القيام بعد كل سقوط.”
هكذا، أصبحت أرى في كل تحدٍ فرصة لبناء نفسي من جديد، وبدأت أصنع الفرص بدلًا من انتظارها. أدركت أن الحياة ليست مجموعة من الانتصارات السهلة، بل هي اختبار طويل للإرادة والعزيمة. كنت أعيش حكمة الفيلسوف الهندي سوامي فيفيكاناندا: “انهض وواصل السير، حتى تصل إلى هدفك”. وهكذا، لم أعد أبحث عن الأمل في الخارج، بل بدأت أجد القوة في داخلي، وتعلمت أن أواجه أمواج الحياة كما كنت أواجه أمواج البحر، بإصرار وعزيمة لا تنكسر.
وفي نهاية كل يوم، عندما أعود إلى منزلنا المتواضع، كانت أمي وجدتي تنتظرانني بقلوب دافئة وابتسامات حنونة. أصبحت أدرك أن الشجاعة الحقيقية ليست في مواجهة البحر فقط، بل في مواجهة الحياة بكل ما تحمله من قسوة. علمتني جدتي أن الحياة هي رحلة توكل وإيمان، وأنه مهما كانت الظروف، فإن الله لن يخذلني أبدًا. وكما قال الشاعر اللبناني جبران خليل جبران: “العواصف لا تزعج إلا من يحمل معه أوراقه الجافة”. وأنا لم أكن أحمل أوراقًا جافة، بل روحًا لا تعرف اليأس، وعزيمة تتحدى الرياح.
العضو الشرفي بجمعية “منتدى معمورة” للثقافة والفن بالقنيطرة