يأتي دور التربية في دعم البناء الحضاري للشخصية المصرية في ضوء التحديات المعاصرة ، وفق أسس حضارية ، ومعايير قيمية ومبادئ أخلاقية وضوابط اجتماعية تعبر عن السلوك الحضاري في إطارها. وهناك عوامل وتحديات تنخر في بناءها، وعلينا أن نثير الوعى بها، مؤكدين على مسؤوليات الإنسان المصري في حمايتها . ويعول على التربية في هذا السياق بناء الإنسان حضارياً بما يتناغم مع شروط وحيثيات النهضة الحضارية ومفرداتها .
وقد استند البحث الحالي إلى المنهج الوصفي ، والتحليل الفلسفي ، کما استعانت الباحثة بالمقابلة المقننة لاستقراء آراء بعض الدارسين للشخصية المصرية. و کانت أبرز النتائج : أن للشخصية المصرية أبعادها البنائية التي تشکل في جوهرها المقومات الحضارية في شخصية مصر، کذلک تتعرض الشخصية المصرية للعديد من حملات التشويه والتدمير بفعل عوامل عدة. ويوصى البحث بتوصيات عدة أبرزها ، بناء النموذج الحضاري وفق فلسفة وأهداف وآليات ومقومات تتضمنها التربية الحضارية ، ووفق القيم الحضارية المتجذرة في بنية الشخصية المصرية ،
والتي تشکل هويتها الحضارية . يشير العديد من المشاهد والتفاعلات الاجتماعية التي يشهدها المجتمع المصري إلى عمق التحولات والتغييرات المتلاحقة والمتسارعة، الناتجة عن تغير البنية الاجتماعية والثقافية المصرية نتيجة العديد من العوامل الداخلية والعولمية.
هذه النتيجة قد تبدو طبيعية ومتوافقة مع المتغيرات العديدة التي أحاطت بهوية المجتمع ورؤيته لذاته ونظرته للآخرين سواء فى المحيط الإقليمى أو الدولي، وإن كانت حيوية المجتمع المصري وقدرته على امتصاص الثقافات واستيعاب الوافدين هى أبرز عناصر قوة هذا المجتمع،
فإن مخاطر تراجع هذه القوة والمقدرة على التصدي للغزو الثقافي والقيمي التي شهدها المجتمع منذ أواخر السبعينيات وما أحدثته من اختلالات مجتمعية، تطرح قضية الوعى بالذات باعتبارها البوصلة التى ساعدت قديمًا وحديثًا فى توجيه السفينة المصرية وإبحارها وتصديها للعديد من العواصف والموجات التى اعترضتها عبر حقب تاريخية ممتدة، بل أسهم هذا الوعى بالذات الحضارية المصرية فى إنقاذ السفينة مراتٍ ومراتٍ ورسم وحدد مسارات التحرك نحو المستقبل، استنادًا إلى هويته المصرية وروافدها الحضارية الصانعة لبوتقة الصهر وسبيكته المجتمعية والحاكمة لرشد العقل الجمعى.
صاحبت أحداث يناير تغيرات جذرية على الشخصية المصرية من الاتجاه نحو الفوضوية وعدم الفهم السليم للحرية، وتحول مفهوم النقد إلى السخرية، وتحدث الغالبية في أمور غير مدركين لها أو مهيئين لأبعادها، وتجاوز القانون وحرق وتخريب مؤسسات الدولة، مما أدى إلى اهتزاز البيئة القيمية للمجتمع المصري.
إضافةً إلى تأثر الشخصية المصرية نتيجة الفترة الانتقالية الصعبة التي صاحبت أحداث يناير، من سقوط النظام السياسي وما صاحبه من تدهور للوضع الاقتصادي وانخفاض في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعجز كبير في الموازنة، وانخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع سعر الدولار وارتفاع معدلات التضخم، وهروب رجال الأعمال المحليين إلى الخارج، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وانخفاض مستوى المعيشة نتيجة الحالة الاقتصادية للدولة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
علاوة على أن أحداث يناير خلقت حالة من الذعر لدى المواطنين، وعدم شعور المواطن المصري بالأمان، وضعف الانتماء لديه نتيجة حالة الفوضى، بالإضافة إلى زيادة معدل الجريمة وانتشار السرقة ومظاهر البلطجة في الشارع المصري، وانتشار الجرائم المستحدثة التي لم تكن معروفة من قبل كالعنف والتحرش وخطف الأطفال والتنمر واللامبالاة وعدم احترام خصوصيات الآخر ولا حرماته. كما شهدت تلك الفترة زيادة في الاعتصامات والاحتجاجات والمطالب الفئوية، والضغط على صانعي القرار خلال هذه المرحلة الانتقالية على قبولها برغم الوضع السيء وعدم تحمل الموازنة العامة للدولة على تحمل كل هذه المطالب الفئوية.
هذا إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي والتي كانت منصة الدعوة لأحداث يناير، بالإضافة لكونها منصة إطلاق الشائعات والتحريض على العنف والتخريب والتنمر، حيث لا ننسى في هذه الفترة أن داومت القوات المسلحة المصرية على إرسال رسائل نصية قصيرة على الهواتف المحمولة تحث فيها الشعب المصري على “ضبط النفس والحفاظ على مقدرات الوطن”، علاوة على أن سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفئات الشعب المصري وخاصة الشباب والأطفال بدون وعي ورقابة أدى إلى تفكك الأسرة المصرية وتغيير المفاهيم الأساسية المعروفة عن التنشئة والتي طالما تميزت بها الأسرة المصرية وكانت بها الأكثر تماسكًا وثباتًا.
رغم أن من مكتسبات ثورة الـ 30 من يونيو هو تغيير سلوك وأفكار الشعب المصري؛ إذ بات يعرف تمامًا ماهية وأغراض جماعات الإسلام السياسي، ويعي مدى تطرفهم وإرهابهم، إلا أن دولة 30 يونيو جاءت وقد وصل المجتمع لسمات شخصية سلبية متوارثة عبر السنين، وتراجع في منظومة القيم، فعملت الدولة المصرية في جمهوريتها الجديدة على استرجاع الهوية والتي لطالما اتضحت بوضوح في خطابات الرئيس السيسي واهتمامه بقضايا الأسرة ومناداته بصياغة استراتيجية لبناء الإنسان لاستعادة الهوية المصرية.
كما أولت الدولة الاهتمام بمنظومة تغيير شاملة تكون فيها الثقافة على رأس الأولويات؛ فوفقًا للتاريخ فإن عنصر الثقافة هو مكون رئيسي في التغيير بجانب تحسين الوضع الاقتصادي وتحسين سبل المعيشة، وهو ما وجهت إليه القيادة السياسية في المبادرة الرئاسية الأضخم في التاريخ المصري “حياة كريمة” ليس لتحسين أوضاع القرى المصرية والقضاء على الفقر وتوفير فرص العمل فقط، بل شملت تطوير وتنمية قصور الثقافة.
إلى جانب توفير مكتبات لتنمية الفكر والثقافة في كل القرى التابعة للمبادرة؛ علاوة على ذلك ولرغبة الإدارة المصرية في بناء الإنسان وشمول التنمية ورفع مستوى الوعي والثقافة، تم ضم عدد من المراكز الجديدة ضمن مبادرة “حياة كريمة”، وذلك رغبة من القيادة السياسية لخلق واقع مغاير والقضاء على الأسباب التي أدت لتغيير الشخصية المصرية. كما انتبهت الدولة في مبادرة حياة كريمة لأهمية وجود قاعات للفنون والموسيقى لخلق نشئ قادر على التذوق الجمالي والإبداع.
ونظرًا لارتباطها الوثيق بالشخصية المصرية قامت الدولة بالاهتمام بالآثار، وفي حدث فريد من نوعه تم فيه إعادة الهوية المصرية الفرعونية في حفل أسطوري تم نقل المومياوات الملكية من متحف التحرير إلى متحف الحضارة، علاوة على افتتاح طريق الكباش بالأقصر.
ومن المؤسسات التي لها تأثير على ثقافة الفرد ومن ثم بناء شخصيته هي المؤسسة الدينية، وناشدت القيادة السياسية بأهمية تجديد الخطاب الديني الذي يحاكي الواقع المعاصر، ويعالج المشكلات بطريقة معتدلة بعيدًا عن التشدد، لأنه عندما يسقط نظام الدين المعتدل ينتصر الدين المشوه والتفسيرات المغلوطة للنصوص الدينية وينتج عن ذلك التعصب والتطرف، وهذا ما ظهر جليًا إبان حكم جماعة الإخوان، وقد بدأت المؤسسات الدينية بالتحديث ومواكبة التطور التكنولوجي وتنشيط صفحات التواصل الاجتماعي للرد على الآراء المغلوطة والمتعصبة، ومازلنا في حاجة لمزيد من الجهد في هذا الإطار.
كما اتجهت الدولة الآن في جمهوريتها الجديدة نحو الانفتاح والحداثة وبناء دولة جديدة تلعب فيها المرأة دور مماثل للرجل. وأيضًا عملت الدولة على الاهتمام بالشباب وتمكينهم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. كما تعمل الدولة المصرية على التواصل مع المصريين في الخارج لتثبيت الهوية المصرية لديهم.
وعلى جانب آخر، فإن لجناحي الإعلام والفن تأثير كبير في تشكيل الوعي وتكوين ثقافة الأفراد ومن ثم بناء شخصيته، لذا ينبغي إيلاء اهتمام خاص بهما، إذ أن دخول رأس المال في الفن والإعلام يهمه في المقام الأول تحقيق المكاسب المادية على حساب الذوق العام، مما أوجد دراما عديمة الفن والمضمون، وأغاني أطلق عليها “مهرجانات” غلبت على معظمها كلمات وسلوكيات خارجة على الثقافة المصرية.
لذا يجب على الدولة أن تراقب دخول رأس المال وخاصة في الفن لضمان استثماره في إصلاح المنظومة القيمية ووضع مبادي ملزمة للجميع للحفاظ على الوطن وإعادة رؤية الجمال وتذوق الفنون، واسترجاع دوره التاريخي في توثيق تاريخ مصر المعاصرة، إلى جانب التناول الإعلامي للمضمون الذي يهدف إلى تنمية وبناء الشخصية المصرية وتعزيز روح المواطنة والانتماء والذي هو دور مشترك بين الفن والإعلام والتعليم سواء الأساسي أو الجامعي.
ومما سبق يتضح؛ أن الظواهر الحادثة للشخصية المصرية تحتاج إلى منظومة تغيير شاملة تتضافر فيها كافة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية حتى تشهد السنوات القادمة استعادة بناء الشخصية المصرية.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا