أنا مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر.. أرحب بتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي مهَّدت الطريق لاستبعاد مئات الأشخاص من قوائم الإرهاب، وإعطاء الفرصة لهم لبدء صفحة جديدة للعيش بصورة طبيعية في وطنهم ولمِّ شمل أسرهم، وهي تمثل خطوة جيدة، ويجب على الجميع استثمارها، والبناء عليها؛ لما فيه مصلحة الوطن.
بالتأكيد.. كان خلف قرار محكمة الجنايات برفع أسماء 716 شخصًا من قوائم الإرهاب والذى جاء بطلب من النيابة العامة مراجعة دقيقة، حيث وصف المحامي طارق العوضي عضو لجنة العفو الرئاسي، مراجعة قوائم المدرجين على قوائم الإرهاب، ب “الخطوة التاريخية التى يجب على الجميع أن يثمنها”.
وبالتأكيد أيضا أن هذه الأسماء لم تتورط فى إراقة دماء المصريين وفى الإضرار المباشر بالوطن ومقدراته .. ولذلك أرى أن هذا القرار خطوة على نشر التسامح واستعادة روح الوطنية المصرية القوية فى نفوس كل طوائف الوطن.
الله سبحانه وتعالى رسخ فى نفوسنا قيمة التوبة ومراجعة النفس وتصحيح المسار.. فكيف نغلق فى وجوه بعض عباده هذه الفرصة العظيمة للتوبة والرجوع الى حضن الوطن؟
التسامح فيما لا يضر الوطن قيمة دينية وحضارية.. ولا يوجد دين غرس فى نفوس أتباعه فضائل التسامح والعفو والرحمة فى التعامل فيما بينهم بل فى التعامل بينهم وبين المخالفين لهم فى العقيدة كما فعل ديننا، حيث نهج القرآن الخالد نهجا حضاريا فى تأليف قلوب المخالفين فى العقيدة والفكر والثقافة.. فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا لنتصارع ونتشاحن ونتقاتل ويحقد بعضنا على بعض، لكنه رسم لنا طريق الحياة الآمنة المستقرة التى تقوم على احترام الآخر، والتعاون معه واحترام حقوقه، والتعامل معه بتسامح ورحمة، فقد خلقنا الله مختلفين فى طباعنا وأفكارنا وقناعاتنا، وهو سبحانه القائل: ” ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك”..وهذا الخلاف بين الناس لم يرده الخالق الحكيم ليتصارع خلقه ويتشاحنوا ويتقاتلوا، ويزهق بعضهم روح بعض، كما نرى فى تعامل غير المسلمين مع المسلمين اليوم فى مناطق عدة فى العالم، لكنه سبحانه أراده خلاف تنوع، يدفع الناس جميعا الى الحوار والتفاهم وتبادل المنافع وإثراء الحياة الفكرية والثقافية، ولذلك قال سبحانه: ” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا “.
لا أعتقد أن المجتمع المصرى سوف يتسامح- لا على المستوى الرسمى أو المستوى الشعبى- مع هؤلاء الذين تورطوا فى ارتكاب جرائم وأستحلوا دماء المصريين، والذين صدرت فى حقهم أحكام قضائية عادلة واجبة النفاذ .. لكن مراجعة الأسماء الموضوعة على قوائم الارهاب نتيجة تحريات أمنية أو اتهامات لم تثبت.. وبعض هؤلاء قد رحل عن حياتنا.. سلوك يؤكد أن هذا المجتمع ينشد العدالة والانصاف، وينبغى أن تجد هذه الخطوة دعما ومساندة من أصحاب النفوس السوية المنصفة وأن يكون شعارنا هنا قول الحق سبحانه فى القرآن الكريم:” ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى”.
طبيعى أن هذه الخطوة قد لا تجد قبولا لدى نفر قليل من الإعلاميين أو أنصار بعض التيارات الدينية المناهضة لجماعة الإخوان، وهؤلاء لا ينبغى أن يفرضوا وصاية من أى نوع على مؤسسات الدولة وأصحاب الرؤى المعتدلة فيها، فالهدف من هذه الخطوة يصب فى مصلحة المجتمع المصرى بكل فئاته وطوائفه وكل خطوة فى هذا الطريق ينبغى أن تجد دعما وقبولا وترحيبا.
وأنا أقول للنافخين فى نيران الانتقام والإقصاء غير المبرر: عودوا الى تعاليم دينكم وأخلاق رسولكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فقد نشر فى نفوس أتباعه خلق التسامح ومعه أخلاق العدل والرحمة والعفو عند المقدرة وغيرها من الأخلاق الفاضلة التى ربانا عليها ديننا، والقراءة الواعية للسنة النبوية، والوقوف على سلوكيات رسول الله الخاتم، وأخلاقياته في التعامل مع المخالفين له، تكشف عن قدر هائل من التسامح ينبغى أن نقتدى به.
ما أحوجنا الى استعادة خلقى التسامح والعفو فى حياتنا كلها باعتبارهما وسيلة إنقاذ مما نعانى منه الآن من عنف وتعصب وتبادل للاتهامات، فقد سيطر التعصب للرأى أو الفكر أو الثقافة على سلوكيات وتصرفات كثير منا، سواء فى مناقشاتنا الدينية أو أمور حياتنا الدنيوية، ومواجهة كل ذلك لا يكون إلا بخلقى التسامح والعفو، فهما فى مقدمة أخلاق الفضلاء والأخيار من الناس، وهما من القيم العظيمة التى لها انعكاساتها الإيجابية فى حياة كل فرد أو جماعة تلتزم بها وتحرص عليها، فمن الناحية الدينية فضيلة ينبغي أن يحرص عليها كل إنسان يريد أن يعيش حياة سعيدة مستقرة، ومن الناحية النفسية والاجتماعية والأخلاقية كله فوائد ومنافع للإنسان الذي يتخلق بهذا الخلق الكريم.
على المستوى الفردى تضفي قيمتى التسامح والعفو على صاحبها مناخا نفسيا وإيمانيا يحقق له الطمأنينة والرضا ويخلصه من كثير من نوازع وشهوات النفس ورغبتها في الثأر والانتقام، فالإنسان المتسامح المتسلح دائما بالعفو يشعر دائما باستقرار نفسي واجتماعي، يعيش هادئا بين الناس، تربطه بالجميع علاقات طيبة، لا توجد بينه وبين من حوله عداوات أو صراعات أو مشاحنات.
وعلى مستوى الجماعى، هما وسيلة مثلى للتعايش السلمى بين الناس، فالمجتمع الذى يحرص أفراده على هذه القيمة العظيمة وهذا الخلق النبيل يعيش حالة من الاستقرار والطمأنينة وتختفى منه صور الانتقام والثأر والعدوان التى نراها الآن فى مجتمعاتنا المعاصرة نتيجة غياب التسامح والرحمة والعفو بين الناس.
من هنا لا ينبغى أن نحتفى بالتسامح والعفو كشعارين نتغنى بهما فى حالات العنف والفتنة وشيوع حمية الثأر فى نفوس البعض، بل ينبغى أن يكونا واقعا معاشا في حياتنا اليومية، ولذلك لابد أن نربي الأجيال الجديدة من أبناءنا على ضرورة الالتزام بهذه القيم وذلك عن طريق تربيتهم على الحوار والتفاهم لا على الصدام والصراع والتشاحن.
ما أحوجنا جميعا الى قمية التسامح والعفو والرحمة فى كل أمور حياتنا.
b_halawany@hotmail.com