ليست مهمتنا هنا تاريخية تأريخية ولا موضوعية تصنيفية من أجل تقرير التيارات الفلسفية المختلفة التى شغلت كتابات أهل الفلسفة فى مصر بقدر ما هى بحث فى وضعية وراهنية ومكانة الفلسفة فى مصر وعلاقاتها بالتفلسف فى العصر الحالى وتوجهاته وغاياته. والسؤال هل للفلسفة حضور فى مصر، ومتى تحضر ومتى تتوارى ومتى تكون ومتى تهون؟ وهل نتحدث عن الفلسفة فى مصر أم عن الفلسفة المصرية وهل الحديث عنهما وصف واقع حاضر أم تعبير عن ما يمكن أن يكون أم حلم يراود الجميع من أهل الفلسفة؟ هل ما زلنا نفسح مجالاً للفلسفة والتفلسف، للعقل والنقد أم أن العلوم والتقنية هما سادة العصر وعلى الفلسفة أن نتوارى وتقنع بما كان لها من حضور؟ وما علاقة الفلسفة فى مصر بتاريخها وقضاياها وتاريخ الوطن وغاياته وإشكاليات المجتمع وأزماته وحضور الفلسفة فى العالم وماهيتها ومكانها ودورها؟ وعلاقة ذلك كله بالفلسفة فى مصر.
علينا بداية تقديم بعض التوضيحات المتعلقة بالبحث عن الفلسفة فى مصر، فنحن لا نتحدث عن الفلسفة المصرية، ومن هنا فمن الضرورى التمييز بين الفلسفة المصرية التى علينا تحديد ماهيتها وتوضيح كينونتها من جهة وبيان المقصود من “الفلسفة فى مصر”. أننا إذا ما خصصنا البحث حول “الفلسفة فى مصر”؛ علينا التمييز بين كل من التناول التاريخى، سواء قديماً أو حديثًا مع تحديد بدايات التحليل والتأريخ من جانب وبين التناول التصنيفى الذى تنحصر مهمته فى بيان التيارات الفلسفية المختلفة التى يحفل بها تاريخ الفلسفة مثالية كانت أم وضعية وجودية كانت أو ماركسية ومدى حضورها فى مصر من جانب آخر. وبين القراءات النقدية والتأسيسية التجاوزية للفلسفة، التى تضعنا على أعتاب إشكالية التفلسف وتزحزحنا بعيدًا عن التأريخ الفلسفى من جانب ثالث. وهل هذا الجانب الأخير يضعنا على أعتاب ما يمكن أن يسمى الفلسفة المصرية؟
أننا إذا ما اخترنا أن نكون على أعتاب إشكالية التفلسف فى مصر، وعلينا أن نوضح المقصود بإشكالية التفلسف، وإن نشير إلى ما عليه وضعية التفلسف العربية فى العصر الحديث منها ووضعية الفلسفة فى مصر منذ عصر النهضة العربية أى ما يقرب من قرنين من الزمان.
لقد تحددت إشكالية النهضة فى صيغة قضية العلاقة بين القديم والجديد، التراث والمعاصرة، الهوية والتغريب والتى نتج عنها فى الغالب حلولاً ثلاثة؛ اختيار طرف من الطرفين أو التوفيق بينهما. وكان هذا يعنى سيادة التفكير الثنائى بين القديم أو الحديث، التراث أو المعاصرة مع غياب كامل للضلع الثالث فى المثلث وقاعدته وهو واقعنا المعاش وقضاياه الراهنة، أى غياب التفكير الجدلى.
وحتى يتسنى لنا الحديث عن الفلسفة فى مصر، يمكن تحديد بداية لبحثنا من أول القرن العشرين حتى اليوم على أن اعتبار المراحل السابقة؛ تدور حول اللقاء مع الغرب فى العصر الحديث وبدايات النهضة العربية(1)، نتناول القضايا الفكرية؛ التى طرحت الأسس التاريخية للفكر الفلسفى العربى الحديث فى عدد من المجتمعات العربية.
بينما تؤكد الفترة التالية التى نحن بصددها على مفاهيم الحداثة، المدنية، الليبرالية، التى شغلت بالصحافة والطباعة والنشر من جهة والتعليم من جهة ثانية والقانون والدستور وتأسيس الأحزاب السياسية وتأسيس الجامعة المصرية التى شكلت الأسس الأولى للفلسفة فى مصر وحددت معالمها انتقالاً من الشكل الدينى لها، المعروف فى دروس الأزهر الشريف، إلى الصورة والوضعية للفلسفة فى العالم واتجاهاتها المختلفة.
علينا في البداية أتباع المنهجية العلمية بالإشارة إلى الكتابات الأولى التى مهدت الطريق للبحث فى “الفلسفة فى مصر” والتى يمكن أن تساعد على الانتقال من التأريخ والتصنيف إلى التحليل والتأسس على الرغم من اختلافها وتنوع مقاصدها وهى بمثابة الدراسات السابقة التمهيدية التى نؤسس عليها ويمكن بيان هذه الكتابات على النحو التالى:
عبد الفتاح الديدى: ينابيع الفكر المصرى، الذى يعرض للمراحل الأولى والبدايات المبكرة(2).
عزت قرنى: الفلسفة المصرية وهو يقدم لنا رؤية نظرية ويرصد أهم القضايا والتوجهات(3).
زكى نجيب محمود: فى حياتنا الثقافية(4).
مراد وهبة: الفلسفة فى الجامعات المصرية مقالتين تنشغلا بالتيارات الفلسفية الراهنة فى الجامعات المصرية ضمن كتابه مقالات فلسفية وسياسية(5).
أديب ديمترى الفلسفة والصراع الاجتماعى فى مصر، مجلة الطليعة، القاهرة ويقدم لنا دراسة تحليلية نقدية للفلسفة من وجهة النظر الجدلية الاجتماعية(6).
يمكننا تحديد الإطار الزمانى للبحث من بدايات القرن العشرين حتى اليوم وفق التطور التاريخى الاجتماعى السياسى؛ الذى مرت به مصر خلال مراحل أربع شكلت التحولات الاجتماعية والسياسية فيها التوجهات الفلسفية على النحو التالى:
أولاً: الفلسفة والليبرالية التى امتدت حوالى نصف قرن من بداية تكوين الأحزاب السياسية فى إطار تعددى 1907 وتأسيس الجامعة المصرية القديمة 1908 وتحديد معالم المجتمع المدنى. وتأجج ذلك منذ العقدين الأولين من القرن العشرين.
ثانياً: الفلسفة والاشتراكية مع قيام ثورة يوليو 1952 وحتى 1970 والتى اتسمت بتيارات فلسفية متعددة وحوارات فلسفية عميقة حول مفاهيم الاشتراكية والناصرية والقومية. وقضايا الإنسان المصري حريته وكرامته وتقدم المجتمع ازدهاره وقوته.
ثالثاً: الفلسفة والأصولية من 1970 – 1981 بعد التحول عن الاشتراكية والسعى إلى إيجاد بدائل للاشتراكية سواء فى التوجه إلى الغرب الرأسمالى أو التيارات الدينية اليمنية. والبحث عن صيغ جديدة للسياسة والحكم والتحالفات الدولية.
رابعاً: الفلسفة والانفتاح والتى تمتد وعلى أشكال متنوعة واختلافات لا تمس الظواهر والسمات التى تحدد الملامح الفلسفية لهذه المرحلة من 1981 حتى اليوم والتى تم فيها التهميش والاقصاء تمهيدًا للأبعاد والإلغاء لها أى للفلسفة عن العقل المصرى اليوم.
والسؤال الذى علينا أن نطرحه والذى تنطلق منه كل تساؤلات البحث هو هل الفلسفة فى أزمة فى مصر؟ ما هو توصيف الأزمة (تحديد الإشكالية) وكيف نتعامل معها؟ اشكاليتنا إذن هى أزمة الفلسفة عندنا وهى لا يختلف أو ليست بعيدة عن إشكالية الفلسفة اليوم فى الغرب والشرق.
من قبيل الإجابة المعادة المكررة والمرفوضة أن “الفلسفة فى مصر” بل قل الفلسفة فى الفكر العربى المعاصر: عارضة، ناقلة تابعة. ذلك إن الإشكالية التى نحن بصددها ذات أبعاد متعددة علينا أن نناقشها فى إطار سياقها التاريخى بهدف نقل الفلسفة فى مصر من إطار التلقى الدائم المزمن عن الغرب والقدماء ومن هيمنة المركزية الغربية والحياة فى الماضى إلى اللقاء مع الحاضر، وفق أنجازات العصر ومن هنا يمكن أن تصبح الفلسفة المقارنة، والقراءات الفلسفية الموازية والمتوازية للفلسفة الراهنة والتى لا تقتصر على الانجاز الفلسفى الغربى؛ سبيلنا إلى التأسيس الفلسفى فى الحاضر وتجاوز التبعية المزدوجة تحقيقًا “للنهضة العربية الثانية”(7) والانتقال من التاريخ إلى الحاضر ومن تبنى التيارات الغربية او طرح مشاريع فكرية عربية إلى التفلسف والإبداع الفلسفى العربى.
هل يمكن أن تكون التبعية للغرب هى محور ما نطلق عليه “الوعى الشقى” وهو التوصيف لما نحن فيه وأهم ما يميزه هى علاقة السيد والعبد على أن نكون على وعى من المفارقة الكبرى فى هذا التعبير فى أن يكون الغرب هنا هو العبد وليس السيد، فهو مسخر لنا، يقدم لنا كل ما نحتاج إليه، فنحن لسنا فقط أمة البترول نملك المال، بل نحن خير أمة أخرجت للناس وكما يوفر لنا الغرب كل المنتجات يوفر لنا كل الابداعات والنظريات، عليه أيضاً أن يقوم نيابة عنا فى حل كل مشاكلنا. من هنا نتحول إلى بيان وتحليل العلاقة بين الفلسفة وبين التاريخ والمجتمع المصرى على امتداد الصور الاربع التى ذكرناها، نتناول أولاً الفترة التأسيسية التى تشمل النصف الأول من القرن العشرين
ثانياً: الفلسفة والليبرالية:
بدأت الفلسفة فى الجامعة الأهلية القديمة بقيام أساتذة أوربيين وعرب منهم: سانتيلانا الإيطالى وماسينون الفرنسى(8)، والكونت دى جالازرا الأسبانى ومن المصريين كل من سلطان بك محمد والشيخ طنطاوى جوهرى(9)، الذى تشير الدلائل إلى ارتباطه بالحزب الوطنى القديم وإذا ما توقفنا عند توقف الدراسة بالجامعة الأهلية فى مارس 1919 واحتفال طلابها بأستاذهم الأسبانى فى أغسطس من نفس العام بحضور زعيم الأمة سعد زغلول لكان علينا طرح السؤال عن العلاقة بين الفلسفة والسياسة فى مصر، هذه العلاقة التى تظهر فى أول كتب عبد الرحمن بدوى عن نيتشه والتى تظهر فى تصديره، الذى يربط بين الثورة السياسية 1919 وضرورة الثورة الروحية فى حياتنا(10).
وقد صرنا نعلم من كتاب بدوى عن سيرة حياته أثر هذا الكتاب على ثورة يوليو 1952 وإذا كان بدوى أحد اعضاء حزب مصر الفتاة؛ كان علينا تحديد سؤالنا عن العلاقة بين الأحزاب المصرية فى الفترة الليبرالية وبين الفلسفة. والحديث عن الفلسفة فى السياسة المصرية؛ لا يعنى اثباتها أو نفيها ولا يعنى أن أحداهما قاد الآخر بل بيان دور الفلسفة فى التحديث وجهود الفلاسفة فى المجال العام خلال انتمائهم السياسية، أما تحليل المواقف المختلفة فهو محور الفقرات التالية(11).
نتحدث فى هذه الفقرة عن أربعة أحزاب سياسية مؤثرة فى الحياة العامة فى مصر ومدى حضور الفلسفة فى المجال العام خلال انتمائهم السياسية، اما تحليل المواقف المختلفة فهو محور الفقرات التالية.
تتحدث فى هذه الفقرة عن أربعة أحزاب سياسية مؤثرة فى الحياة العامة فى مصر ومدى حضور الفلسفة فى برامجها السياسية وأهم توجهات رجالها وكتاباتهم الفلسفية فيما تعلق بالحياة الثقافية والمجال العام فى مصر وهى: هى الحزب الوطنى القديم خاصة لدى كل من الشيخ طنطاوى جوهرى ومحمد لطفى جمعة وأمين بك واصف وحزب الأمة، الذى صار الأحرار الدستوريين، ودور كل من الشيخ مصطفى عبد الرازق وأحمد لطفى السيد الفكرى فى اتجاهات الحزب والحزب الاشتراكى المصرى خاصة كتابات كل من على العنانى وسلامة موسى وحزب مصر الفتاة ودور عبد الرحمن بدوى فى التنظير الفلسفى توجهاته.
يلحظ المحلل للعلاقة بين الفلسفة والسياسة فى مصر بخصوص هذه الفترة؛ أننا لم نشر إلى جماعات سياسية أخرى، سوى ما ذكرناه وأن هناك غياباً واضحاً لأحزاب وجماعات لها حضورها القوى فى المجتمع المصرى، مثل حزب الوفد وجماعة الأخوان المسلمين والجماعات الماركسية واليسارية وهى تجمعات سياسية لها تأثيرها الكبير فى المجتمع والثقافة فى مصر ولها ايديولوجياتها المذهبية وهى تختلف عما ذكرنا من أحزاب سياسية لأسباب متباينة أما لغياب الفلسفة فى أيديولوجيتها عامة أو لكونها مطاردة من السلطات الحاكمة أو لتوجهاتها الشعوبية. أو استغراقها فى تحقيق مصالحها التى تتنازع حولها مع غيرها من أحزاب وقوى سياسية ممن ذكرنا. نحن هنا نقف صراحة وبوضوح فى قلب العلاقة بين السياسى والفلسفى ولمن الرؤية والقيادة والغلبة والتأثير فى قضايا المجتمع الأساسية.
الفلسفة والحزب الوطنى القديم
نذكر بداية جهود شخصيات ثقافية فكرية لها دور فلسفى فى حزب الأمة الذى يعد من أوائل الأحزاب التى تبنت القضية المصرية وغلب على توجهات الحزب السياسية التوجه الإسلامى كما يظهر فى العديد من الكتابات التى قدمها مفكرى الحزب خاصة الشيخ طنطاوى جوهرى (1870-1940)، الذى قام بتدريس الفلسفة فى الجامعة المصرية القديمة؛ وقدم تفسيرًا كاملًا للقرآن “تفسير الجواهر” وطبعت أعماله فى مطابع الحزب ونشرت مقالاته فى “اللواء”. وهناك من يقارنه مع ويميزه عن الشيخ محمد عبده ونذكر هنا بعض كتاباته التى توضح اتجاهه مثل: “نهضة الأمة وحياتها”، “أين الإنسان”؛ “أحلام فى السياسة والسلام العام”. التى كان لها تأثير على المثقفين فى عصره(12).
ويمكن تناول جهود عدد من المنتمين للحزب الوطنى الفلسفية؛ ومن تأثروا بالشيخ طنطاوى جوهرى ومنهم القانونى والمؤرخ محمد لطفى جمعه (1886-1953)، بكتاباته المختلفة حول التاريخ الإسلامى وتوجهاته الفلسفية المختلفة التى يذكرها لنا بالتفصيل فى عدد من كتاباته، خاصة محمد لطفى جمعه شاهد على العصر، ورسائل محمد لطفى جمعه ومعاصريه إلا أن المهم فى هذا السياق هو كتاباته الفلسفية، خاصة “تاريخ فلاسفة الإسلامى”، “مائدة أفلاطون”. ويمكن أضافة كتابات شخصيات تنتمى قدم عدداً من الكتابات الفلسفية المتنوعة فى مجالات الفلسفة. خاصة أمين واصف صاحب عدد من كتب الفلسفة فى الثلاثينيات من القرن العشرين(13).
الفلسفة والأحرار الدستوريين
والحزب السياسى الثانى والأكثر تأثيراً فى حياتنا الفكرية هو حزب الأمة الذى صار الأحرار الدستوريين أعلن شعار مصر للمصريين سياسياً وفلسفياً نذكر من مفكرى الأحرار الدستوريين؛ الحزب الذى غلبت الجوانب الفكرية والحزب السياسى الثانى والأكثر تأثيراً فى حياتنا الفكرية هو حزب الأمة، الذى صار الأحرار الدستوريين ألن شعار مصر للمصريين، سياسياً وفلسفياً؛ أحمد لطفى السيد (1872-1963) وكتاباته المتعددة خاصة قصية حياتى وترجماته عن أرسطو وأهميتها للحياة السياسية المصرية. ودراسته عن الأخلاق ودورها فى التعاون الدولى (للدفاع عن استقلال مصر).
والشخصية الأساسية، التى تهمنا بشكل أوضح هذه الفترة هى الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885-1947). نشير إلى كتاباته المختلفة خاصة كتاب التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ونحن ندعو إلى دراسة تحليلية للأسس الفلسفية التى يقوم عليها الكتاب مقارنة بالبرنامج السياسي لحزب الأحرار الدستوريين الذى أسسه آل عبد الرازق. هذا البرنامج الفلسفى السياسى يظهر فى توجهاته المختلفة وما قام به تلاميذه، خريجى الدفعة الأولى من قسم الفلسفة فى الجامعة المصرية ممن توجهوا لبحث الفكر المصرى فى أطروحاتهم الجامعية على اختلاف تخصصها.
ويمكننا ان نتوقف عن نوعية مغايرة للحزبين السابقين، اللذين تناولهما واللذان غلب الطابع الفلسفى على كتابات مفكريهما أكثر من الجانب السياسى وهما الحزب الاشتراكى المصرى وحزب مصر الفتاة ويمكن القول أنه بينما ساد الحضور الفلسفى فيما تناولهما، سنجد أن هناك نوعاً من التعادل بين السياسى والفلسفى فى حزبى مصر الفتاة، والحزب الاشتراكى المصرى.
الفلسفة فى الحزب الاشتراكى المصرى
على الرغم من الأهمية الفلسفية للرواد الأوائل لهذا الحزب وتحولاته السياسية المختلفة إلا أن الدور الفكرى الذى نهض به رواده لا يزال جزءًا من تراثنا الثقافى المعاصر، سواء لدى محمد عبد الله عنان أو أستاذ الفلسفة فى الجامعة المصرية القديمة على العنانى (1881-1943) الذى ابتعث إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة وتشبع بالفلسفة الألمانية، خاصة الهيجلية وأصدر مع أستاذ الفلسفة فى جامعة الأزهر محمد غلاب مجلة النهضة الفكرية ضد مفكرى الأحرار الدستوريين أحمد لطفى السيد وطه حسين، خاصة فى النصف الاول من القرن العشرين.
إلا أن الشخصية ذات الحضور الثقافى الأكثر تأثيرًا فى الثقافة العامة فى العقود الأولى منذ العشرينيات وحتى الخمسينيات وربما الستينيات فهو سلامة موسى؛ الذى انتقل من البيولوجيا والسيكولوجيا إلى الفلسفة. ويمكننا أن نتوقف عند القضايا الأساسية التى تناولها فى كتاباته والفلاسفة فى كتابه “طريق المجد للشباب” وقدم فى كتبه هؤلاء علمونى وتربية سلامة موسى مصادر تكوين الفلسفى انتقد كثير من الفلسفات التى سادت الحديث عنها فى الأربعينيات والخمسينيات: نيتشه وبرجسون وسارتر.
مصر الفتاة بين الفاشية والنازية
وتمثل مصر الفتاة، أحد الأحزاب السياسية الراديكالية المضادة للديمقراطية للتوجهات الليبرالية الممهدة للثورة المصرية، من خلال كتابات منظرها الأول عبد الرحمن بدوى يمثل عبد الرحمن بدوى. قبل الخمسينيات وربما على امتداد الخمسينيات حتى صدور القوانين الاشتراكية فى مصر سبتمبر 1961 مشروع فلسفى سياسى تبنته مصر الفتاة وتأثر به ثوار يوليو 1952 وهو المشروع الذى ظهرت بوداره مع نشره كتاب نيتشه 1938 الذى أثر تأثيراً كبير على ضباط الثورة المصرية 1952 والذى أضيف إليه تبنى بدوى للفلسفة الوجودية التى أعلنها هيدجر فى كتابه الوجود والزمان واتخذت شكلها الفرنسى فى كتاب سارتر الوجود والعدم. وهو نجده بالتفصيل فيما كتبه فى اطروحاته الجامعية واصداراته الفلسفية الأولى، إلا أن موقف بدوى الفلسفى يثير أشكالاً فلسفياً يظهر فى التناقض الحاد بين تبنى النازية فى السياسة والوجودية فى الفلسفة مثلما يظهر فى تأثير كتاباته على الضباط الأحرار، الذين اختاروا ضمن لجنة وضع دستور 1955 وثورته عليهم ونقداً لهم فى بداية الستينيات وتحوله عنهم وهو ما سنتوقف من أجل تحليله حين نتحدث عن المواقف النقدية للاشتراكية والناصرية فى الفقرة القادمة.
ثالثاً: الفلسفة والاشتراكية
تختلف التوجهات الفلسفية فى مصر، فترة الستينيات، تقريباً بعد عقد من الزمان على ثورة يوليو عن التوجهات الفلسفية الليبرالية قبلها. وإذا كان مما ميز الفترة الليبرالية التعبير عن قضايا المجتمع المتعلقة بالمدنية والحداثة والحريات على مستوى والدعوة إلى عدد من التيارات الفلسفية الغربية ذات الطبيعة المثالية العقلانية والوجودية الإنسانية أى قضيتى العقل والحرية، فإن ما يميز العقدين التاليين هو البحث عن العدل من خلال فلسفة جديدة للثورة من جهة بحثاً عما يسمى الاشتراكية العربية أو التطبيق العربى للاشتراكية وهو ما يظهر فى شكلين الأول هو الدعوة للثورة فى حياة عبد الناصر، ثم النقد الحاد، الذى قدمه الفلاسفة لما سمى بالتطبيق العربى للاشتراكية أو ما يعرف بالتجربة الناصرية.
على هذا يمكن الحديث عن فلسفة تمثل السياسات الجديدة مثلما أطلق عليه يحيى هويدى الفلسفة فى الميثاق والحياد الفلسفى الموازى للحياد الايجابى وهو ما يمكن أن نجد تعبيراً عنه فى كتابات مراد وهبه، خاصة مقالات فلسفية وسياسية خاصة أن وهبه كما يخبرنا عمل مستشاراً لشئون الفلسفة مع عبد الناصر. وفى مرحلة تالية خاصة بعد انتهاء التجربة الناصرية تحولت الدعوة إلى النقد، بل الرفض حيث ظهر توجهاً نقدياً بارزاً فى كتابات متعددة لدى كل من عبد الرحمن بدوى (1917-2002) من جهة وفؤاد زكريا (1927-2010) من جهة أخرى الأول ضد الاشتراكية والثانى باسم الاشتراكية.
والمفارقة الواضحة فى هذين النقدين هو سيادة نقد الاشتراكية اجتماعياً وسياسياً واخفاقه فلسفياً بينما الانتصار للاشتراكية كان له تأثيره الايجابى فلسفياً فى سيادة العقلانية النقدية واخفاقه سياسياً حيث نمت هجرة العقل المصرى وهو ما سنجده محتدماً بعد 1970 بين داعية الأصولية وناقدها الأكبر فى مصر حسن حنفى (1935-2021) وفؤاد زكريا (1927-2010) وهو موضوع تحليل الفقرة القادمة الفلسفة والأصولية والتى نجد أوضح صورة لها فى كتابات صاحب التراث والتجديد.
يمكننا التوقف فى مرحلة الدعوة عند تيارات فلسفية متنوعة اسهمت فى التنظير للثورة المصرية على أثر ما طرحه زكى نجيب محمود من تساؤلات حول بأى فلسفة تسير. وتبلورت الاسهامات الفلسفية بصورة محددة فى تيارات أربعة هى:
الثورة والفلسفة الواقعية الجديدة خاصة لدى يحيى هويدي صاحب “الفلسفة والميثاق” و”حياد فلسفى” وعدد من الدراسات حول فلسفتنا فلسفة واقعية، فلسفة المقاومة، الحرية فى الفلسفة المعاصرة.
الثورة والتغير الاجتماعى فى كتاب مراد وهبة خاصة تلك التى جمعها فى كتابات مقالات فلسفية وسياسية والتى تدور حول : نظرية الثورة، الناصرية والايديولوجيات المعاصرة، الثورى والمتمرد.
الحرية الوجودية والاشتراكية وهى ما يظهر فى كتابات عبد الفتاح الديدى، وهى الفلسفة التى توصل إليها من عمل سارتر نقد العقل الجدلى والتى يؤكد فيها على أن الوجودية هى الاشتراكية الحقة.
سرعان من اخففت الأصوات؛ التى تقرأ الاشتراكية قراءة فلسفية خاصة بعد 1967 وتوقفت مع نهاية المرحلة الناصرية بوفاة عبد الناصر، واللافت للنظر ازدهار الناصرية سياسياً وفكرياً خارج مصر وغيابها تماماً فى مصر، وظهور النقد السياسى والنقد الفلسفى لكل من الاشتراكية والناصرية. تبلور النقد الأول فى موقف عبد الرحمن بدوى والذى يمكن أن نجده فيما كتبه حول سيرة حياته والنقد الثانى فى كتابات فؤاد زكريا خاصة حواره مع اليسار المصرى؛ الذى ظهر فى كتاب عبد الناصر واليسار المصرى.
آداب القاهرة