الوطن… دولة/ (نظام) هو وجود يتشكل من: أرض وشعب وجيش وشرطة؛ في مربع مكتمل الأركان لا يمكن أن يسقط أو ينقص منه أيُّ ضلع. والوقائع الجاري ترسيخها في الواقع العربي الراهن تثبت أن هناك محاولة أو سيناريو جديد يتم توظيفه في المنطقة لهدم ذلك الأنموذج المعياري القديم والمستقر؛ للعودة بها إلى ما قبل التاريخ لاستصناع واسترداد “أنموذج الشعوب والقبائل”؛ ليس لتعارفوا؛ ولكن لتتحاربوا وتتقاتلوا وتذهب ريحكم.
ولعل تطورات الأحداث في “المسألة السورية” تؤكد تواصل مؤامرة تنفيذ تجربة ذلك السيناريو المريب تطبيقاً عملياً بخصوصيته في وطن/ دولة قديمة البنية وعميقة النظام؛ ولها تاريخها السياسوي الراسخ (الدولة الأموية أنموذجاً)، وفق تركيبتها الديموجرافية الخاصة؛ والتي ورثت ما يُسمى “مرحلة حكم الخلافة” عبر “بني أُمَيَّة” الأسرة الحجازية التي حكمت تلك الدولة القديمة من دمشق خلال الفترة من (41هـ/ 662م ـ132 هـ/ 750م).
وكان لهذه الدولة العتيقة “حكام/ولاة”(14 حاكماً) بدءاً بمعاوية ابن أبي سفيان؛ ولها كذلك “جيش كبير” حقق الانتصارات بالفتوحات، ويعد فتح الأندلس أبرز منجزاته؛ فضلاً عن تميزها بـ “اقتصاد تجاري” هائل تحقق بالفتوحات والسيطرة على أغلبية الطرق في العالم القديم عبر المناطق التي تمت السيطرة عليها بزراعاتها وصناعاتها الحرفية الخاصة.
ووفق منهج تَغلُّب الأنظمة السياسوية اللاحقة؛ تمكن أنموذج “دولة بني العباس” المسماة “الدولة العباسية” من إنهاء وجود الدولة الأموية كسلطة؛ ولكن بقيت الأرض والشعب؛ وهكذا هو منطق التاريخ: انتقال السلطة من “نظام” إلى “نظام”؛ باختلاف الهويات من أجل تجسيدها السياسوي.
ولكن الحالة الراهنة للمسألة السورية تكشف نمطاً مُخيفاً جديداً؛ يُعتبر هَدْمَاً لأنموذج “الدولة الواحدة القائمة” بكل تاريخيتها؛ سعياً للوصول إلى أنموذج التكوينات الميليشياتية العرقية والعقدية؛ والتي تكون أقرب إلى “العصاباتية” شكلاً ونهجاً؛ عبر تمكن نخبةٌ فاسدةُ التفكير؛ تركب فعل الحركة وتحركها مصالحُها الذاتية وطموحها الفرداني في أن تكون رأساً للتكوينات السياسوية التي سيتم استيلادها.
إن لعبة “تفتيت الدولة السورية” الراهنة تمضي بسرعة؛ بفعل مُحركات قوى محيطها الحَّاف أي:” الدولة العثمانلية/ التركية بنظامها المتأخون؛ والدولة الصهيونية بنظامها العقدي المُتَوَهَّم؛ والدولة الإمبريالية الأميركية راعية مخططات التفتيت العالمية”؛ وكل هذه القوى الحافَّة بسوريا الوطن الواحد ذات أطماع توسعية هدفها اغتصاب الأرض السورية المعروفة جغرافياً وتاريخياً وسياسوياً؛ وقد بدأ تطبيق ذلك المخطط بالفعل؛ بالإعلان العثمانللي والاجتياح الصهيونوي الحادث.
ونتيجة لترتيبات “سيناريو الفوضى الحادث”، تمكنت الميليشيات المستصنعة من الهيمنة على الأوضاع فوق الأرض؛ وتحقق حدوث انهيار النظام السوري؛ فتلاشي وجود الجيش الوطني وجرى تدمير قواعده ومعسكراته وأسلحته وإنهاء وجوده بالعمليات العسكرية الصهيونية ليلحق بالجيوش العراقية والليبية واليمنية إلخ.
وإزاء هذا الطور من السيناريو بتمكين القوة الميليشياتية من مفاصل الأرض في سوريا، والانفراد العملياتي في الساحات برعاية الكفيلين المجرمين “تركيا والكيان الصهيوني” والراعي الأميركي؛ بدأ السفور عن ملامح مستقبل “تفتيت الدولة السورية” مستهدفاً؛ والوصول بها إلى “حالة السيولة” التي تتم قولبتها سياسوياً فيما يأتي.
ولعل التصريحات التي يطلقها ” أبو محمد الجولاني القاعداوي الداعشاوي” المدعو أحمد الشرع، والذي وفق ما يبدو هو رجل المرحلة المقبلة؛ فهذه التصريحات توضح ملامح القَضَاء على “سوريا/ الدولة/ الوطن الواحد”.
فقد تناقلت المواقع الإعلاموية ذلك التصريح المثير للجولاني بمنطوقه المنشور:” سيتم حل كل الفصائل، ولن يكون هناك سلاح إلا بأيدي الدولة السورية ولن يكون هناك تجنيد إجباري في سوريا بعد الآن”!!
وهذا التصريح الملغوم يستدعي طرح التساؤلات التالية:
من هي تلك الجهة التي ستتولى مهمة حل كل الفصائل”الميليشيات المتوحشة”؟ هل تركيا؟ أم الدولة الصهيونية؟ أم الولايات المتحدة؟
إذا كانت “ميليشيات” الجولاني الخاصة هي من ستتولى هذه المهمة بأسلحتها، فهذا يعني بدْء سوريا مرحلة “الاقتتال الداخلي الكامل” بين الجميع كي لا تضيع المغانم من البعض؛ ويفوز بها عنصر منفرد مُتغلِّب أو متحالف مع بعض الميليشيات الأخرى.
كما أن تعبير: ” لن يكون هناك سلاح إلا بأيدي الدولة السورية” يتطلب معرفة ما المقصود هنا بتعبير “الدولة السورية”؟ فهل الميليشيات كلها ستتوحد وتندمج لتشكل جيش الدولة السورية؟ هُنا لغز كبير؛ حيث أن مصلحة القوى الحافة بسوريا تقبل بوجود ميليشيات متحاربة ولا تقبل وجود جيش وطني قوي إلا لو كان ديكوراً.
إن تعبير “لن يكون هناك تجنيد إجباري في سوريا بعد الآن” يكشف حقيقة السيناريو المُتَرَبِّص بسوريا الوطن؛ فهل يعني ذلك أنه سيتحول إلى جيش من المتطوعين بالمطلق؟
وهل إدماج كل الميليشيات وتجريدها من أسلحتها سيمثل حلاً في وجود هذا “الجيش الجديد”؛ وسيلبي كافة الاحتياجات من توفير قوات حسب تنوع المجالات في الطيران والبحرية والبرية؛ ومن سيدفع فاتورة شراء الطائرات الحربية والسفن والمدرعات والمدافع والصواريخ؟
وإذا كانت “الحرب السورية” في مارس/آذار 2011م استدعت الاحتفاظ بكافة الجنود العاملين بصرف النظر عن انتهاء أعوام خدمتهم الثابتة أو قرب انتهائها، فضلاً عن استدعاء عشرات الآلاف من المدنيين الذين أنهوا خدماتهم العسكرية قبل اندلاع تلك الحرب؛ فماذا سيفعل “جيش الميليشيات الموحد لاحقا في قضية التوغل الصيوني والعثمانللي لتحرير الأراضي السورية المحتلة؟
الأسئلة كثيرة والألغاز كبيرة في هذا الموضوع؛ وحسابات النجاح حولها مشكوك في فعالياتها وفق الحسابات الموضوعية والمنطقية؛ لأن “الدولة السورية” وجوداً صارت مصابة بسيولة هائلة ورخاوة على كافة المستويات؛ فقد سقط نظامها؛ وتلاشى جيشها؛ واستبيحت حدودها داخلياً وخارجياً؛ بمعنى أوضح إن الدولة السورية صارت هُلامية وحالتها لا تدعو إلاَّ للحزن والخوف… فكيف إذن تكون سورية دولة وطنية… جيشها من الميليشيات