وفقا للأعراف وللقيم الإنسانية العامة التي لا يختلف عليها اثنان ،وبعيدا عن الاعتبارات الدينية والعقيدية، فإن إستمراء فكرة الخداع والتلون ومخاطبة الناس بوجهين والتي ينتهجها بعض أبناء الدنيا ، هو من أقبح العلل والأمراض التي تفقد صاحبها المصداقية والقدرة علي الإقناع والتواصل الفعال وثقة المتلقي قولا وفعلا ، وجملة وتفصيلا!.
ولاريب أن التحول المفاجئ لميليشيات جبهة “تحرير الشام” بتاريخهم الملطخ بدماء الأبرياء ومحاولة الظهور أمام العالم بمظهر وطني وثوري هو أمر محير ويثير العشرات من علامات الاستفهام، حول حقيقة هذه الجماعات وطبيعة هذا التحول الإيديولوجي والفكري..
أهو عن مراجعة حقيقية وتصحيح مسار وعودة لجادة الصواب ، ونقول لهم حينها أفلحوا إن كانوا من الصادقين ،أم مجرد تلون خبيث حسب المصالح والأهواء والقناعات،ورداء يخفي العديد من النوايا تمهيدا لمهام استراتيجية وأغراض خاصة لا علاقة لها بالمباديء الإنسانية أو الدينية، أو بهموم وطموحات بقايا وطن في “سوريا الحزينة”.
فأن تصبح بين عشية وضحاها ملاكا تنزل من السماء وتنزه عن كل نقيصة ،فهذا أمر يجافي منطق الأمور وطبائع الشخوص وقناعات النفس والتي تتطلب وقتا مناسبا ومراحل تمهيدية ،وخطوات إصلاح متدرجة!.
وفي هذا السياق المريب جاء مشهد رفض أحمد الشرع الملقب بالجولاني “رجل المرحلة في سوريا” مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية..أثناء زيارتها لسوريا ،حيث أثار جدلا واسعا حول حقيقة “الجولاني” ورفاقه في محاولة لإظهار هذا التدين الشكلي، أمام العالم والإلتحاف برداء الفضيلة والمثالية، ومن ثم تضليل المتلقي وتزييف وعي وإدراك الناس بحقيقة هذه الجماعات ومدي صدق نواياها المستقبلية في هذه المرحلة الدقيقة من عمر سوريا والأمة العربية جمعاء.
كما يثير العشرات من علامات الاستفهام والتساؤلات الحائرة حول طبيعة هذا الدعم الغربي فائق النظير وهذا التجاهل والصمت “الجولاني” بعد تحركات الصهاينة المريبة واحتلال جبل الشيخ وناطق جديدة من الجولان، وتدمير مقدرات الجيش السوري في عدة ساعات بدون حرب حقيقية وتجاهل ما يحدث في فلسطين وكأنهم جاءوا من كوكب آخر ،فقط يرفعون شعارات تدشين سوريا “الجديدة “وتحرير الأرض والحرية والديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان!.
في تقديري أنها إزدواجية ممقوتة تضاف لسجل حافل من الإخفاقات لجماعات التيار الإسلامي..
وأتصور أن فكرة إرتداء الأقنعة ، واستمراء خداع البسطاء أمست أمرا سخيفا مستهجنا،ولو نجحت برهة من الزمن فلن تدوم، فمن افترض طوال الوقت أنه أذكي الناس ومن فصيلة النجباء الفريدة فهو أكثرهم غباء وحماقة أعيت من يداويها!.
ولا ريب أن تطورات وتداعيات الأحداث تدعونا للأسي والحزن والدهشة وربما الحسرة والعودة لتقييم أداء هذه الجماعات من آن لآخر ،فمن خلال رصد ومتابعة ممارسات قوي التيار الإسلامي السياسي أو من يدعون كذبا أنهم يحملون مشروعا إسلاميا حضاريا ،نجد في الواقع أشياء وسلوكيات وتصرفات تجافي العقل والمنطق والنص وكل القيم الإنسانية!.
ولا أدري سببا مقنعا، وتفسيرا مقبولا حول إصرار هذه القوي علي التجمل برداء الإسلام ،سوي خداع الناس وتوظيف العاطفة الدينية المتأصلة لديهم، فديننا الحنيف لم يعرف يوما إلا السماحة والترفق والتراحم ومنهج الوسطية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة،مع الحذر من مكائد الأعداء.
وصدق القائل: “لأن اطلب الدنيا بمزمار خير لي أن أطلبها بدين”..
وشاء من شاء وأبى من أبى سيبقي الإسلامُ دِين الجِدّ واحْتِرام الذَّات، يحُثُّ على البحثِ عن مَعالي الأُمورِ، وتركِ التنطُّعِ في الدِّينِ وفي أُمورِ الحَياةِ.
وقد جاء في الأثر ما أخبر به التّابِعيُّ عبدُالرَّحمنِ بنُ أبي نُعْمٍ البَجَليُّ أنّ رَجلًا مِن أهلِ العِراقِ سَألَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رَضيَ اللهُ عنهما: هلْ يَجوزُ للرَّجلِ إذا كان مُحرِما بحج أو عُمرةٍ أنْ يَقتلَ الذُّبابَ أو لا؟ فقال مُتعَجّبا مُستَغرِبا مِن حِرصِ أهلِ العِراقِ على السُّؤالِ عنِ الشَّيءِ اليَسيرِ، وتَفْريطِهم في الشَّيءِ الجَليلِ، فقال: «يَسْألونَ عنِ الذُّبابِ وقدْ قَتَلوا ابن ابنةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ!»، أي: يَرتَكبونَ المُوبِقاتِ، ويَجرؤونَ على قتلِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ حَفيدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ بعْدَ ذلك يُظهِرونَ كَمالَ التَّقْوى والورَعِ في نُسُكِهم، فيَسْألونَ عن قَتْلِ الذُّبابِ!.
وأعتقد أن هؤلاء الشرذمة من الجماعات الإرهابية المسلحة الذين يتصدرون المشهد الآن في سوريا .. لا يختلف حالهم كثيرا عن هذا الحال ،الذي يهتم بصغائر الأمور ولا يلتفت إلى عظيمها وطبيعة دوره ورسالته في حماية الأرض والعرض والمقدرات.
كما أن الناظر المتأمل لسجل جماعات تيار الإسلام السياسي سيجد فشلا ذريعا لهذه الجماعات في التعاطي الأمثل مع الواقع ، وازدواجية ما أنزل الله بها من سلطان ،والقاسم المشترك فيها اختلاط الحابل بالنابل، وأكذوبة “الثورة”، وتماهي القوي المعتدلة مع اتجاهات العنف والتغيير بالقوة وإعلاء قيم الجهاد وتطبيق شريعة الله زيفا وبهتانا.
ومن عيوب التيار الإسلامي المتشدد التي شهدها الناس أيضا خلال السنوات الأخيرة الاستعلاء والكبر ورفض النصيحة والتعايش مع الواقع ..وأحيانا غمط الناس وبطر الحق علاوة علي قائمة من الأمراض والعلل والقناعات الفاسدة والتفسير الخاطئ للنصوص الدينية، عجلت هذه العيوب والنواقص بوأد جهودهم للإصلاح والتغيير وكل محاولات لتقديم صورة مثلي لمشروع إسلامي حضاري راشد !.
وفي اعتقادي أن فكرة المشروع الحضاري الإسلامي المستنير بالنسبه الصافي لمنهج النبوة ،لم تجد بعد أفرادا يحملوا لواءها ،وهم في المقام الأول فصيل من عباد الله المخلصين الصالحين المصلحين وليسوا عبيدا لدنيا أو هوي أو سلطان أولقوي غربية تتأبط بهم وبمجتمعاتهم شرا ،ولها أطماع وطموحات استراتيجية لا حدود لها!.
ولعل هذا ما أفسد الصورة الذهنية لهم لدي الناس وأسهم في صنع فجوات نفسية ووجدانية مع المجتمع بعد إصرارهم علي رفض فكرة الوطن والارتماء في أحضان القوي الغربية واللجوء أحيانا لأساليب المخادعة وحب السيطرة وتقلب الحال..
وصدق الله العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) الصف 2،3.
وخلاصة هذه السطور أننا أمام عملية محكمة الإعداد والسيناريو للإحتيال الفكري وتهميش وتزييف الوعي بما يحتويه من تزييف للمعلومات وتشويه للحقائق الإجتماعية وتضليل إعلامي وتزييف للتاريخ وتشويه للنصوص واللوائح الدينية والإنسانية، وحتي إشعار آخر..ولله الأمر من قبل ومن بعد.