أتمنى أن يتبنى أطباء الأسنان فى بلادنا وجميع بلاد العالم الدعوة للرحمة بمرضاهم
تعبت من التجول فى منطقة الجامعات ببوسطن، فدخلت كافتيريا أنشد بعض الراحة مع فنجان قهوة بلدي، وأعنى بالبلدى هنا الأمريكاني، مثلما هو حال التفاح الأمريكاني، حيث ضحك أحد الباعة وأنا أسأله عن سعر التفاح الأمريكاني، فأجابنى مندهشاً: وهل هناك تفاح غير أمريكاني؟!. المهم طلبت قهوة ووقفت أمام الكاشير لدفع الحساب. فى الطابور الطويل لاحظت أن أحد الأشخاص من أصحاب البشرة السمراء أمثالى ينظر لى مبتسمًا. شعرت أن دم القارة السمراء «بيحن».
أومأ الرجل لى بالتحية، وفهمت من إشارته أنه يريد أن يحاسب عني، ولكن لأنى كنت أنا الأقرب فى الدور للكاشير منه دفعت لى وله بعد أن سألته بالإشارة أيضاً عما يريد، وأجابنى بنفس اللغة. فامتن الرجل وجلسنا سويًا نحتسى القهوة البلدي، قدمت له نفسى وكذلك فعل. عرفت أنه من دولة إريتريا لكنه هاجر إلى أمريكا منذ سنوات طويلة بعد أن حصل على بكالوريوس طب وجراحة الأسنان من بلاده.
وإريتريا هى دولة فى القرن الإفريقى، عاصمتها أسمرة، ويحدها السودان من الغرب وإثيوبيا من الجنوب، وجيبوتى من الجنوب الشرقى. ولدى إريتريا عند الأجزاء الشمالية الشرقية والشرقية منها خط ساحلى واسع على طول البحر الأحمر. دار بينى وبين الدكتور إبراهيم الإريترى حديث طويل فى كل ما يخص القارة السمراء من قضايا مشتركة فى السياسة والاقتصاد.
وكان الرجل يتمتع بخفة دم تلقائية خاصة عندما كان يحاول التحدث باللغة العربية، والتى هى إحدى اللغات الرسمية لإريتريا. لفت نظرى أن الرجل يرتدى بالطو العمل، وعرفت أن المستشفى الذى يعمل به قريب من تلك الكافتيريا، وهو يفضل كل يوم تناول القهوة فيها خلال وقت استراحته. ووجدتها فرصة لسؤال يؤرقنى كثيرًا عن سر ارتفاع تكلفة علاج الأسنان ليس فى أمريكا فقط، بل فى العالم كله.
قلت له إن فى مصر على سبيل المثال، كلما سألت طبيب أسنان عن السبب تعلل بارتفاع تكلفة استيراد الأجهزة الطبية والمواد الخام المستخدمة فى علاج الأسنان، فما هو عذر أطباء الأسنان فى أمريكا مثلًا، وهى لا تستورد بل تصدر؟، فهمت منه ما معناه أن هذه الأسعار المرتفعة أصبحت ثقافة طب الأسنان، وقال إن تكلفة زراعة السنة الواحدة تصل إلى خمسة آلاف دولار دون أى داع!.
تذكرت حوارًا دار بينى وبين طالب جامعى تركى كان يدرس فى سان دييجو بكاليفورنيا عن نفس الموضوع، حيث قال لى إنه عندما يريد علاج أسنانه يقطع تذكرة ويسافر إسطنبول، حيث تظل رغم تكلفة السفر والجهد أرخص من العلاج داخل أمريكا، وعندما أبديت دهشتى الشديدة قالى لى عبارة لا أنساها، وكررها لى الدكتور إبراهيم: نعم يا صديقي، تألم هنا كما تريد، ولكن إبحث عن العلاج فى بلدك، هنا فقط مكان للألم وليس للعلاج.
قلت للدكتور إبراهيم الإريترى مداعبًا: لماذا لا تبدأ بنفسك وترخص الأسعار؟! فضحك قائلًا: فعلتها ووجدت نفسى قد دخلت فى سين وجيم، حيث تعاطفت مع مريض شعرت أن حالته المادية «على قدها»، وطلبت منه ٢٠٠ دولار عن علاج تكلفته ٥٠٠ دولار، فإذا بالمريض يشك فيّ، ويسألنى: هل أنا طبيب أسنان فعلًا أم لا، بل وطلب أن يطلع على الشهادات الخاصة بي، ومن تلك اللحظة أقلعت عن هذا التصرف!
طبعًا تصرف المريض الأمريكى ليس ذريعة لأطباء الأسنان ليستمروا فى ذبح المرضى، وأتمنى أن يتبنى أطباء الأسنان فى بلادنا وجميع بلاد العالم الدعوة للرحمة بمرضى الأسنان، وألا يبالغوا فى الأسعار، فليس من المنطقى أن نظل نحن كمرضى نسدد فى كل مرة نذهب فيها لطبيب الأسنان ثمن تكلفة كرسى اشتراه الطبيب مرة واحدة.
فيا كل أطباء الأسنان فى مصر وفى أمريكا وحتى فى الشقيقة كوالالمبور، وكذلك أحبابنا فى جزر القُمر: الرحمة حلوة والله.