إن الخبرات التعليمية التي تقوم على فلسفة البحث، والاستقراء، والاستنتاج، والاستقصاء، وضوابط الملاحظة الرصينة، وبعض المهارات النوعية في المجال تُعد أفضل من صورة الخبرة التي تقوم على اكتساب معارف وفق ماهية التلقين، والحفظ، والاسترجاع، وما نستقرأه من المواد الدراسة لنظام البكالوريا المصري، وما نأمل أن يكون هو الخلاص من صورة التحصيل في مستوياته الدنيا، واللجوء إلى مستوياته العليا، والتمسك بتنمية مهارات التفكير العليا التي تتسق مع مهارات القرن الحادي والعشرين.
وفي واقع الأمر لا نجد أن نظام البكالوريا المصري مبتدعًا؛ فمعظم الأنظمة التعليمية الدولية تقوم على فلسفته، وطبيعة المناهج التعليمية تندرج تحت تصنيفاته؛ فقد غدا النظام التعليمي طامحًا في بناء إنسان قادرٍ على مواكبة سوق العمل المتغير، وقادرٍ على أن يواجه التحديات الجمّة التي تواجه كافة مجالات الحياة العلمية، والعملية، والمعيشية، وفي هذا الإطار تسعى النظم التعليمية جاهدةً في مواكبة التغيرات؛ كي يصبح الخريج قادرًا على الإنتاجية، ولديه من الخبرات، وما يرتبط بها من معارفٍ، ومهارات، ووجدانياتٍ ما يعينه على إحداث نقْلاتٍ نوعية في مجال تخصصه؛ ومن ثم يصبح أداة بناء فاعلة في مجتمعه.
وجميعنا يتفق على أن الإنسان أرقى مخلوق على وجه الأرض؛ لكونه قادرًا على إعمال عقله في إدارة شئون حياته بصورة تامة، ولديه المقومات التي يستثمر بها ما على وجه الأرض لصالحه في شتى مجالات الحياة؛ استنادًا على ما وهبه الله – تعالى – من مقدرةٍ على التفكير، والذي نعرف ماهيته بأنه العملية الذهنية، المعرفية، الوجدانية، الراقية، والتي تقوم على بعض العمليات النفسية، كالإدراك، والإحساس، وتخليق الأفكار، والتخيل، والتصوّر، وترتكز على العمليات العقلية، وتعتمد عليها، كالتذكر، والتركيز، والتنظيم، والتصنيف، والتقييم، والتمييز، والمقارنة، والاستدلال، والتحليل، والاستنباط ، والاستنتاج، والابتكار.
وندرك أن التعليم أحد المنابر الرئيسة التي تستهدف تنمية مهارات التفكير العليا لدى المتعلم عبر أنشطة تعليمية مقصودة، ومخططة تعمل على تنمية السلوك الذهني؛ حيث تمكنه من معالجة المعلومات؛ ليستطيع من خلال ذلك أن يحل المشكلات، ويصنع القرارات، أو يتخذها؛ ومن ثم يتطلب أن تكون هناك مناهج تعليمية تحقق تلك الغاية النبيلة.
وعلينا أن نعي المسلّمة الرئيسة التي ترتهن عليها تقدم المجتمعات، وفي خلق أجيال تمتلك التفكير، وأساليبه التي مكّنته من أن يأتي بكل جديد متفرد يخدم البشرية، ويضيف لحضارتها، ونهضتها، ويحقق جودة الحياة، ورفاهيتها؛ فما نعيشه اليوم من تقدمٍ تقني مبهرٍ، ونقْلاتٍ نوعيةٍ في مجالات الحياة قاطبةً ما هو إلا إفرازاتٌ لعلمٍ تمخض عن نتاجٍ رصينٍ جاءت به عقولٌ منتجةٌ.
وأقول مترويًّا: إن نظم التعليم المتقدمة على مستوى العالم تستهدف إكساب منتسبيها من المتعلمين مجموع خبرات تتناسب مع أساليب تفكيرهم؛ لتنمي لديهم أسلوب التفكير المحبب لدى كل متعلم على حدة، وفي هذا استثمارٌ حقيقي للطاقات، وتنمية مثلى للقدرات، والمهارات، وصقل مرتقب للوجدان الذي يحث المتعلم على مزيدٍ من حب الاستطلاع العلمي، وشغف البحث، والتعلم.
وإذا ما تأملنا نظام البكالوريا المصري، وما به من مقررات دراسية موزعة على مرحلتين الأولى منها تمهيدية تُعد من وجهة نظري مرحلة للتأسيس، والإعداد، والكشف عن الميول، والاستعدادات، واستكشاف مقنّنٍ عن أساليب التفكير المفضلة لدى المتعلم؛ ومن ثم يصبح هذا المتعلم جاهزًا؛ ليختار تخصصه الدقيق في المرحلة الرئيسة بشكل صحيحٍ، وأساسٍ سليمٍ مبنيٍّ بالطبع على ما لديه من ميول علمية، وبعض أساليب التفكير التي يمتلكها المتعلم بالفعل.
وهنا أدعي أنه ثمة علاقة ارتباطية إيجابية بين نظام البكالوريا المصرية، وتنمية أساليب التفكير لدى المتعلمين بهذه المرحلة التعليمية المهمة والمفصلية، والتي تُعد الإنسان لمرحلة متقدمة يتشكل على أثرها مصيره المهني، أو الأكاديمي، وهذا بناءً على إتاحة الفرصة للاختيار التي يتمتع بها المتعلم وفق ما لديه من أسلوبٍ تفكيريّ مفضل؛ ليحدد مواده التخصصية بالصفين الثاني، والثالث بمرحلة البكالوريا، وهو مطمئنٌ، لا ينتابه الشكُّ، ولا يعتريه التضليلُ، بل نؤكد مرارًا، وتكرارًا بأنه يختار وفق أسلوب تفكيره المفضل، وما لديه من مهاراتٍ، وشغفٍ، وحبِ استطلاع، وميولٍ علمية.
ونود الإشارةُ إلى أن ما لدينا من أساليب تفكير تساعدنا بصورة وظيفية على معالجة ما يرد إلينا من معلومات، وتمكننا من أن نقوم بالسلوك الذي نواجه به المشكلات، والقضايا بمختلف تنوعاتها، وتعقيداتها، وهنا نؤكد على أن لكل منا أسلوب تفكير يطغى على الأساليب الأخرى لديه، وهذا يحتم علينا أن نقدم الخبرات التعليمية بصورة متنوعة، ومتعددة؛ كي تتناسب تلك الخبرات مع تنوع أساليب التفكير لدى أبنائنا المتعلمين.
وإذا ما طالعنا أسلوب التفكير التركيبي نجد أن صاحبه يستطيع أن يصل لفكرة تتسم بالجدة، والحداثة من خلال بعض الأفكار التي تكون مترابطة، أو غير مترابطة، أو بعض المعلومات المتشابهة، أو المختلفة؛ حيث تتضح مقدرة الفرد على أن توجد علاقات ارتباطية منطقية؛ ومن ثم يعمل على إعادة الترتيب، والتنسيق بما يُظهر جمال المخرج الذي تم تركيبه، وأعتقد أن مسار الهندسة، وعلوم الحاسب، وما تتضمنه من مواد تخصصية تناسب هذا النمط من التفكير؛ حيث إن مساحة التفكير العميق بعد المرور بحالة من التأمل المبني على أطروحات، أو معلومات تستوجب التدبر من قبل المتعلم؛ فيستطيع أن يتفاعل معها، ويُصدر استجابات قد تكون منطقية بالنسبة لنا، أو غير منطقية.
ونرى في أسلوب التفكير العملي ما يؤكد شغف المتعلم تجاه إجراء التجارب، والاهتمام، وأعتقد أن مسار الطب، وعلوم الحياة الأقرب إليه؛ فمن خلال مواده التخصصية؛ نجد المتعلم يسعى إلى أن يخطط بصورة صحيحة، وينفذ بشكل سليمٍ؛ ليصل إلى الهدف، أو الغاية التي يتطلع إليها، لكونه يمتلك قدرًا من حب الاستطلاع المبني على فلسفة الواقع، والخبرة في الميدان تعد منفذًا للابتكار، ومهاراته، ناهيك عن مقدرة المتعلم على أن يربط بين النظرية، والتطبيق، وينمو لديه حب انتهاج الأسلوب العلمي؛ بغية الوصول إلى نتائج عملية ذات جدوى سواءً ارتبطت ببيئته التعليمية، أو العملية، أو الحياتية.
وأعتقد أن أسلوب التفكير التحليلي يناسب مسار الآداب، والفنون؛ فهناك متعلم يغلب عليه توظيف الجانب النظري في أطر ممارساته؛ حيث انشغاله دومًا ببناء معارف ذات أصالة، وجِدَّة، ومن ثم تمكنه أن يستمر في حالة جمع المعلومات، وترتيبها؛ ليستخدمها بحرفية في حل ما يواجهه من قضايا، أو مشكلات، وهنا تتمثل براعته في المقدرة على اختيار أفضل الأطروحات، أو البدائل؛ فالقضية، أو المشكلة بالنسبة له لا تمثل معضلة، وما عليه إلا أن يعمل على تفكيكها؛ ليتفهم تفصيلاتها، ويتمكن من صياغة حل يناسب أطروحتها، وهذا معبر للإبداع، وفنونه.
ومسار الآداب، والفنون، ومواده التخصصية أرى أن يتناسب معها ذوي نمط التفكير المثالي؛ حيث إن المتعلم يهتم دومًا بعرض وجهة نظره الخاصة، وفي بعض الأحيان يتمسك بها، وقد يتبنى ما يراه كخريطة لمستقبله المشرق، وهذا الأمر له أهميته في تشكيل القيم، والمبادئ لديه؛ فالمتعلم صاحب الفكر المثالي محبب لديه أن نناقشه بالمنطق، والحجة، والبرهان، والدليل؛ ليتأكد لديه أن العالم المحيط به يتوافق مع قيمه، ومبادئه الصحيحة.
وأرى أن مسار الأعمال، ومواده التخصصية يقابلها أسلوب للتفكير لا ينفك عن الواقع، ولا يقبل بغيره بديلًا؛ فيحترم الملموس من النتائج، ويقدر ويهتم بالملاحظ المباشرة، والتجريب عند تناول قضية، أو مشكلة ما؛ فما يؤدي إلى إشباع رغباته التعليمية، والفكرية تلك الحلول الوظيفية التي تلامس جوهر القضية، أو المشكلة التي تم طرحها، وأصحاب التفكير الواقعي لا تقدم لهم حلولًا جاهزةً، أو مقترحاتٍ مستلّةٍ؛ لكن تترك لهم المساحة، والميدان؛ لإثبات جدوى الحل.
وبنظرةٍ تحمل التفاؤل، والأمل أرى أن نظام البكالوريا المصرية وفق ماهية أساليب التفكير، والفلسفة التي تعتمد على تنميتها أن يشكل دعوةً صريحةً للإتقان في اكتساب الخبرات التعليمية، وتحقيق نواتج التعلم المتفردة، وهذا ما نطمح إليه، وهو الحصول على تعليم متميز يخلق لنا جيلًا تتناسب، وتتوافق قدراته، ومهاراته، ووجدانياته مع سوق العمل المتغير، كما أن هذا الأمر يدعونا لأن يكون لدينا معلمٌ يمتلك الأداء التدريسي الذي يسهم في تنمية أساليب التفكير التي تمت الإشارةُ إليها سلفًا.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع