بقلم السفير الدكتور: الحبيب النوبي
فتح طوفان الأقصى أكبر سوق شهدناه في حياتنا للبيع والشراء -سوق تاجر الناس فيه فباعوا واشتروا على مدار خمسة عشر شهرًا، فربح من ربح وخسر من خسر، وهذه مراجعة لمن ربح ومن خسر، حتى يستعد المؤمن للدورة التالية من البيع والشراء في هذا السوق العظيم، وهي آتية وقريبة، لا محالة.
أول وأكبر الرابحين في هذا السوق الشهداء، الذين باعوا النفوس لله تعالى فاشتراها منهم: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم – التوبة ١١)، وعلى رأس من باع نفسه لله من قتلوا وهم يجاهدون في سبيل الله مقبلين غير مدبرين، صابرين محتسبين، يجاهدون بالحديد ولا يفل الحديد إلا الحديد، وما أشرف أن يُقتل المرء وهو ينوب عن أمة كاملة ويقيم عنها فريضة معطلة، يدافع فيها عن شرفها بل عن وجودها، سواء على المستوى العسكري أو السياسي. بخ بخ يا أبا إبراهيم، ويا أبا العبد، ويا أبا محمد، ويا كل من رحلوا في هذه الحرب عن دنيانا، ولكنهم: (أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون – آل عمران ١٦٩-١٧٠).
ومن الرابحين في هذا السوق العظيم من باع نفسه لله وهو يجاهد بالطب والتمريض والإسعاف، وما أشرف أن يُقتل المرء وهو يحيي النفوس ويضمد الجرحى ويخفف الآلام ويقوم بأشرف المهن، ومنهم من باع نفسه لله وهو يجاهد بالإعلام والكلمة ونقل الحقائق للأمة وللعالم، وما أشرف أن يُقتل المرء وهو صوت للمظلومين والثكالى في هذه الظروف، وعون للمجاهدين الصامدين، ومنهم من باع نفسه لله وهو يجاهد بالإغاثة والكفالة وإيصال العون، وما أشرف أن يُقتل المرء وهو يطعم الطعام ويسقي الماء ويكسو العاري في هذا المقام، ومنهم من باع نفسه لله وهو يعلّم ويربي، سواء من علّموا القرآن في المساجد فقتلوا وهم على هذا الحال، وما أشرفها من شهادة، أو من علّموا الطلبة في المدارس والجامعات فقتلوا وهم على هذا الحال، و(إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع)، وربح الضحايا الأبرياء الذين قتلوا فلحقوا بقافلة الشهداء ولو لم يكونوا في أي من تلك الصفوف، إذ أنهم قُتلوا في سبيل الله لا في سبيل غيره، وأخرجوا من ديارهم لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله، قتلوا وهم الظهير والسند والذخر والرصيد والحاضنة الشعبية التي لا غنى عنها للمجاهدين على مختلف ألوانهم، ولا يقوم أمرهم إلا بهم، فهنيئًا لهم الشهادة على هذا الحال، (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين – آل عمران ١٤٠).
وهناك من ربح في هذا السوق العظيم ولكنه ربح دون ربح الشهداء الذين باعوا كل شيء، كلٌ على شاكلته ونيته، منهم من ربحوا بالصمود في السجون مأسورين في سبيل الله بسبب هذه الحرب -سواء في فلسطين أو في غيرها من بلاد الله بما فيها بلاد المسلمين للأسف-، رغم آلة القمع والظلم الرهيبة، وما أثقل كل لحظة من فقد حرياتهم في موازينهم يوم القيامة إن شاء الله، ومن أهل غزة العزة من ربح بالصبر على الخوف والجوع والعطش والبرد الشهور الطويلة، والمرابطة في أماكنهم حماية للأرض والعرض والمقدسات رغم التهديد والحصار والخطر، والثبات على الدين رغم خذلان الإخوة في الدين إلا قليلًا، والتمسك بالإنسانية رغم ندرة الإنسانية. ربح بيعكم يا أهل غزة العزة، يا تيجان الرؤوس وشرف هذه الأمة في هذا العصر. بارك الله لكم في هذا الفتح المبين وإن كان نصرًا جزئيًا ومؤقتًا، ولكننا نسأل الله تعالى أن يتمه عليكم وعلى أمتنا كلها بتحرير الأقصى كاملًا، عن قريب إن شاء الله، وما ذلك على الله بعزيز.
وأما بقية الأمة، فهناك من ربح بالجهاد بالمال في سبيل الله، ولا غنى للجهاد بالنفس عن الجهاد بالمال في كل صوره، وهؤلاء شروا أنفسهم من الله تعالى بأموالهم: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد – البقرة ٢٠٧)، وهناك من ربح بالإسناد والدعم، وعلى رأسهم من دعم المجاهدين بما استطاعوا من قوة فعلية على الأرض، ولو جزئيًا، ولو نالهم في سبيل ذلك ما نالوا، وخسارة الداعمين المساندين للنفوس والأموال في سبيل الله لا تضيع عند الله تعالى، وهناك من ربح بالدعم في صور أخرى قدر استطاعتهم -والله أعلم باستطاعة كل إنسان-، وكانوا يذرفون الدمع على عدم استطاعتهم فوق ما قدموا، فكانوا كما قال تعالى في أمثالهم: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون – التوبة ٩١-٩٢)، فمنهم من نشر الوعي، ومنهم من تظاهر، ومنهم من جمع التبرعات، ومنهم من عبّر عن المعاني العالية بالفنون والشعر والإعلام، ومنهم من قال كلمة حق أو قدم شفاعة يساندهم بها، والله أعلم بعباده. عفا الله عنا وغفر لنا تقصيرنا وألحقنا بالصالحين والمجاهدين.
وأما الخاسرون، فما أكثرهم في تلك السوق العظيمة، وعلى رأسهم بطبيعة الحال المعتدين الطواغيت، أباطرة العصر الذين بنوا إمبراطوريتهم العنصرية في القرنين الأخيرين على سفك الدماء وإبادة الشعوب، والذين وجدوا في (صقور) الكيان فرصة لإذلال أمة الإسلام، ونهب ثرواتها، وضربها في قلبها النابض، وردع شعوبها عن الاستفاقة على جلاديها المستأجرين عندهم، ويلحق بهم من ساندهم ودعمهم في شتى الصور من أركان الدول العميقة في تلك (الديمقراطيات) الغربية الزائفة، ومعهم تجار الأسلحة وسحرة الإعلام وضباع الاستثمار وعملاء الأجهزة الأمنية وخونة المؤسسات التعليمية سواء بسواء، وهؤلاء كلهم خسروا أنفسهم في الدنيا ولو نالوا شيئًا من لعاعاتها أجورًا على القتل والإبادة، ولكن الأعظم من ذلك أنهم خسروا الآخرة: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا – الفرقان ٣٤).
وأما الذين عارضوا من غير المسلمين هذا التوسع الإمبريالي العنصري وراعهم التعامل اللا إنساني واللا أخلاقي في هذه الحرب، فهؤلاء لم يخسروا إن شاء الله، بل ربحوا كرامتهم وإنسانيتهم وقيمهم الأخلاقية والمهنية في هذه الدنيا، بل وقد اعتنق كثير منهم الإسلام بمناسبة هذه الأحداث، إلى أن بلغت بعض التقديرات لمجموع من أسلم من غير المسلمين من أهل البلاد الغربية التي شاركت في العدوان في خمسة عشر شهرًا، بلغت نصف مليون معتنق للإسلام أو يزيد، وخاصة بين الشباب والفتيات من عمر العشرين إلى الأربعين. وهؤلاء نسأل الله لهم الثبات وحسن الإسلام، وأن يكتب أجرهم ونورهم لأهل غزة العزة، وأن يغيّر الله تعالى بهم الموازين في بلادهم، وهو تغيير آت لا محالة إن شاء الله.
إلا أن أكبر الخاسرين في هذه السوق العظيمة ليسوا من خارج دائرة الإسلام، بل هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويدّعون الانتماء لديننا الإسلام، ولكنهم منافقون نفاقًا أكبر -أي يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر-، وهم قد والوا أعداء الله على خيرة عباد الله، وباعوا أنفسهم للشيطان وحزبه، وناصروا محاربي الإسلام على المسلمين، وأيدوا الطاغوت الظالم على الجهاد العادل، وهؤلاء المقصودون بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين – المائدة ٥١-٥٣)، وهؤلاء وإن قبضوا في الدنيا أثمان بيعهم لدماء وأعراض إخوتهم في الإسلام أو العروبة، إلا أن لهم في النار الدرك الأسفل: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا – النساء ١٤٥). أدال الله دولهم، وهد بنيانهم، وأرانا فيهم آياته عاجلًا غير آجل. آمين.
هذا، وعلى المؤمن الواعي أن يعدّ العدة للجولة التالية من الحرب، والدورة التالية من سوق البيع والشراء، فقد حكم كل ذي عقل وبصيرة أن العد التنازلي لتحرير الأقصى قد بدأ، وأن العقاب الإلهي على الإفساد والعلو في الأرض قد حان، وأننا اقتربنا من الجولة الحاسمة خاصة بعد تمايز المعسكرين والفريقين، فيسأل المرء نفسه: إذا لم أكن من الرابحين في هذه الجولة -والعياذ بالله- فأين أنا إذن من الجولة التالية؟