هيمن ( مسرح المقاومة ) وعبر التمرحلات التاريخية المسرحية ، الاجنبية منها والعربية، على فضاءات المدونات النصية والمشهدية ، التي تفاعلت مع فكرة ( المقاومة ) شانها شأن الفضاءات الادبية والفنية الاخرى : كالشعر والرواية والسينما واللوحة التشكيلية ، ويجزم غالي شكري في كتابه ( ادب المقاومة ) بقوله : ” ليس هناك عمل ادبي جاد في تاريخ الانسان القديم والحديث يمكنه ان يخلو من هذه السمة البارزة ، وهي المقاومة ، لان هذا العمل يفقد عنصرا خطيرا من مكونات وجوده ، اذا خلا – من أحد وجوهه – من فكرة الصراع بين الانسان والكون ، سواء تمثل هذا الكون في الوجود الطبيعي أو النسيج البشري” ويتوقف عند الامثلة العديدة من نصوص المقاومة بالنقد والتحليل مثل المسرحيات : ( القديسة جون لبرنادشو وتحديدا عند شخصية جان دارك , ومسرحية ثمن الحرية لعمانؤيل روبلس، ومسرحية سياتي الوقت لرومان رولان ، ومسرحية المحراث والنجوم لشون اوكيزي ، ومسرحية ليالي الغضب لارمانسالاكرو ، ثم يختم بمسرحيتين لجان بول سارتر هما ، الذباب و موتى بلاقبور ) .
اما اذا ذهبنا الى الامثلة من النصوص المسرحية العربية التي بصمت المقاومة سلطتها الفكرية والحكائية عليها فهي كثيرة جدا ، ذلك ان المسرح المقاوم فرض فكره وشكله على خطاب المسرح العربي بوصفه نوعا مسرحيا حديثا وحداثويا، على وفق الحاجة المجتمعية والثقافية والسياسية العربية ، المتورمة بالأزمات المتلاحقة والمستندة على المقاومة كأنها الركيزة المحورية لتطلعاتها الانسانية الحالية والمستقبلية .
اولا : النص
لماذا تموت الأمهات ؟ .. جملة استفهامية ارتكز عليها نص المؤلف اسماعيل عبد الله ( كيف نسامحنا – اولئك اصحاب الجحيم ) ، فللوهلة الاولى يبدو انه تساؤل تقليدي ، اذ ليس فقط الامهات تموت ، بل جميع الكائنات الحية نهايتها الموت فهذه سنة الحياة لاستمراريتها وفقا لثنائية الولادة الجديدة والموت ، لكن اذا ما ربطنا هذه الجملة الاستفهامية ، او هذا التساؤل ، بالمتن الحكائي لنص المؤلف هنا ، نجدها تاخذ مديات ومعان وجودية فلسفية احتجاجية مقاومة ، لان الموت وبحسب هذه المدونة النصية ليس تقليديا ، بل هو ذلك الموت القسري والقهري المعنف تحت سلطة التعسف ، ودستوبيا الواجهات المزيفة والشعارات المتناقضة بين قولها وفعلها ، هذا كله وغيره ما تصدت له المرأة الملفوفة رقبتها بحبل الاعدام وهي تنتظر مصيرها بالشنق موتا ، الا ان القدر أجل مصيرها ساعة واحدة او اقل وهي المنحة الحياتية التي قدمها لها عزرائيل بحسب ما جاء في السرد الحواري للنص .
كيف نسامحنا ؟ ، نص مسرحي يفترض المكان والزمان والاشياء ، مثلما افترض الروائي مجيد طوبيا في روايته ( الهؤلاء ) افترض مدينة ( ايبوط ) التي يتحكم بها زعيمها ( الديجم ) بكل جبروته وقساوته الدموية لناسها البسطاء والطيبين ، فافترض عبد الله هنا ( البناية ) متعددة الشقق السكنية يسكنها رجالات التجارة والفساد والتسلط الجائر ، وهم يسعون التخلص من هذه المرأة التي تسكن في سرداب العمارة السفلي ، وهي تشكل لهم مصدر قلق وتخوف على بقائهم في جرهم وجريرهم الغاشم والظالم ، لكن الفشل في النهاية كان مصيرهم ، فعبر التحولات الدرامية وتنقلات احداثها من شقة لأخرى ومن مشهد لآخر ، كشف النص عن تعبيرية مرمزة في منهج الكتابة ، فعبر فرضيته المكانية والزمانية المطلقة واسماء شخصياته ب ( الرجل 1 / والرجل 2 … الخ من الشخصيات ) باستثناء شخصية ( عامل التنظيف ) الذي عبر عنه النص بوصفه الشاهد على العصر ، والذي نراه نحن بوصفه صوت المؤلف في النص ، او هو ذلك الراوي العليم المتخفي في السرد الروائي ، او هو الخبير في التجربة الحياتية المنفعلة دائما ، وهو ايضا فيلسوف النص الذي اختاره المؤلف من شريحة الفقراء تحديدا ، ليبث لنا الاسئلة الوجودية المتلاحقة : ” من نحن ؟ من اين اتينا ؟ والى اين نحن ذاهبون ؟ ماذا تعني الحياة ؟ ما هو الزمن ؟ وكيف السبيل الى الخلود ؟ ” وفي هذا التساؤل الاخير احالة مباشرة الى جلجامش في الملحمة البابلية القديمة الذي سعى الى الخلود لكنه فشل واكتشف ان الخلود بالاعمال والاثار الصالحة لبني البشر .
لماذا يلجأ كاتب النص الى عدد من الاقتباسات الشعرية او النثرية ويضعها في نصه المسرحي ؟ هل هو عاجز عن التعبير مثلا ؟ او ثمة عجز او قصور منه للتعبير عن الحالات الشعورية في بعض المواقف الدرامية لشخصياته ؟ .. فلقد كشف عبد الله هنا عن اقتباساته الشعرية من كبار الشعراء العرب وجلهم يصنفون من شعراء المقاومة ، امثال : ( محمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد و مظفر النواب و دعبل الخزاعي و اسماعيل عبد الله ) الى جانب افادته من مدونات : ( زياد خداش ومريم قوش و عيسى فراقع و نضال الفقعاوي ) .. برغم ان النص كان حافلا بجمل حوارية ذات طاقة شعرية وشاعرية مثل :
( المرأة : عدالة السماء حصنت ونفثت فيها انفاس الخلود ، خيولكم مثقلة بآثامكم ، عاجزة عن مطاردة براق روحي المحلق لمعانقة قلب السماء ، اسراؤكم صاغر خائر عن اللحاق بمعراجي
الرجل 3 : معراج الى الهاوية التي تنتظرك .
المرأة : لا يهوي من يحلق بجناحين من نور ونار ) ص 5 –النص
و ايضا في مكان اخر من النص :
( الرجل 4 : ان نجوت بمجدافيك ، تنتظرك على الشاطئ فوهات من سعير ستجتث جذورك من هذا البيت ، وستقتلع اثارك وذكرياتك من ارضها وسترحلين في الفراغ )
وايضا :
( عامل التنظيف : تفقد من تحب ، تفقدهم قلبا قلبا ، تأمل وجوههم ، احفظ ملامحهم جيدا ، اختزلهم في روحك كما تختزل كتابا ، املأ رئتيك من اريج اصواتهم ، قل لهم احبكم مثل الزيتون واكثر ، فالأرض كالزيتون لا تنسى ) ص 20 –النص
وكثيرة هي الامثلة التي غلفت بجمل حوارية وصياغات تأليفية كثيرة حلقت بالمتن الحواري بطاقة شعرية واضحة ، اذن لم يكن المؤلف هنا قاصرا عن تعبيراته ، ولم يكن عاجزا عن تصوير مكامن الالم النفسي او الجسدي او الفكري لشخصياته ، بل انه بحث عن شعرية ذات طاقة موغلة في الخيال ، تغرز في مخيالها سبر اغوار التأثير ، لا تلك التي تتبنى معنى الشعور المعجمي او القاموسي لمفردة الشعر بمعنى ( شعر بالشيء ) ، او ذاك المقترن بأسلوبية الانزياح اللفظي او الدلالي ، بل نجد ان هذه الاقتباسات جاءت من اجل الوظيفة الشعرية المراد منها قوة التأثير الذي تهيمن على السامع عبر كلام يسمعه فيتحرك في داخله شيء يهز كيانه هزا عاطفيا ووجدانيا ، ولأن المواقف الدرامية المتمردة والاحتجاجية في هذا النص تحتاج لهذه البلاغات الشعرية المقاومة في اسمى مستوياتها الفكرية والجمالية ، من هنا جاءت خيارات المؤلف لهذا العدد من كبريات القصائد الشعرية لزجها او تضمينها عبر انتقالات نصه المتلاحقة .
ومن المهم الاشارة هنا ، الى ان نص ( كيف نسامحنا ؟ ) جاء عبارة عن سيناريو مسرحي منضبط في نصه الثانوي اي ( ملاحظات المؤلف ) وارشاداته في تحريك مشاهد النص وانتقالاته الزمكانية وتداخلاتها المشهدية ، فضلا عن خياراته حتى في نوع المؤثرات الصوتية ، بل وحتى في اظلام هذه الشقة وانارة الشقة الاخرى .. واجد ان هذا النص يصلح تماما لسيناريو سينمائي مع اجراء بعض التعديلات السينمائية الطفيفة عليه .. ترى .. كيف تعامل معه المخرج ( محمد العامري ) اخراجا مسرحيا ؟
ثانيا : العرض :
مثلما ذهب المؤلف في الاعلان التعبيري المرمز عن فرضيته المكانية لفضاء نصه ، عمد المخرج ( العامري ) هنا الى فرضيته الاخراجية بتقسيم فضائه المسرحي الى اربعة مستويات مشهدية ، ثلاثة منها امامية مختلفة الارتفاعات ، باستخدامات متعددة لوظيفة كل مستوى من هذه المرتفعات ، بوصفها الشقق المتعددة للبناية مرة ، وتوظيفها كدهاليز لإبرام الدسيسة وحياكة المؤامرات ضد بطلة العرض ، المرأة المقاومة ، التي نشهدها بدءا في فرجة مسرحية وهي تتسيد ساحة الاعدام وسط سردابها السكني نفسه باستثماره اخراجيا بتعدد وظيفته الصورية ودلالاتها الفكرية والجمالية ، اما المستوى الرابع فكانت المرآة الكبيرة العاكسة كأنها الصورة السينمائية التي تقبع عين كاميرتها خلف الممثلين ، لتبث لنا مباشرة تحركاتهم لكن من وجهة معاكسة لنظر المشاهدين ، سواء مشهد الاعدام او المشاهد الاخرى للسرداب السكني للمرأة .. هذا التعاكس المشهدي كانت له مسوغاته الفكرية والجمالية ، ولم يكن مجرد ابتكار تصويري مباشر في الان والهنا ، فمن الناحية الفكرية اننا نرى الاشياء من وجهات نظر مختلفة وذلك ما يحرك جدلية الملاقحة العقلية واظهار ما خفي من بواطن الاشياء واسرارها ، ومن الوجهة الجمالية ان هذا الابتكار التصويري أضفى شكلا مغايرا ، لا متوقعا للتلقي من شانه الكشف عما يحدث في الشوارع الخلفية ، فهناك دائما نجد ما هو مسكوت عنه ، الامر الذي يرتبط بإحدى الركائز المحورية لخطاب العرض هنا ، وهي الاشهار عن كل ما هو مسكوت عنه ، وتعرية الدستوبيا المدنية المعاصرة وادانتها دراميا ، حتى اولئك الذين يتعمدون في ادارة ظهورهم عن هذه الفواجع ستظهر لهم من جهة اخرى لتقلق مضاجعهم حتى لو كانوا في بروجهم المثقلة بفسقهم وفجورهم .
ظل الاخراج امينا ومجسدا لسيناريو النص المسرحي ، اذ حقق بزعمنا 50% من ارشادات المؤلف في رسم المشاهد وتحولاتها الزمكانية ، حفاظا على تراتبية الاحداث بدءا من المشهد الاستهلالي ( منصة الاعدام ) مرورا بجميع المشاهد ووصولا الى المشهد الأخير في نهاية العرض الذي شكل لنا ثورة سينوغرافيا بارعة في مستوياتها الخمس لغرف الفاسدين والمارقين في البناية وكيف تمت الإطاحة بهم وقذفهم إلى الحضيض حيث الاعماق السفلى / إلى الجحيم ، في النهاية بوصفهم ( اولئك اصحاب الجحيم ) بحسب العنوان الثاني للنص ، لينتهي به العرض المسرحي ، هذه الامانة الاخراجية في تجسيد عدد غير قليل من مشاهد النص الأصل ، ليست سبة دائما ، بل للضرورة احكامها كما يقال ، لان المخرج وجد نفسه امام تراتبية درامية مشهدية منضبطة ، فانتمى اليها لإيمانه بانها ستحقق له رؤيته وفرضيته الاخراجية فكريا وجماليا ، هذا اذا تتبعنا العديد من الملامح الاخراجية التي انمازت بلغة اخراجية بالغة القيمة في مشاهد متفرقة من العرض .. نشير الى بعض منها :
اولا : ثنائية الصورة المشهدية المتعاكسة كما بينا ، رؤية الاشياء من وجهتين تعزز التصورات والتخيلات الفكرية والجمالية عند التلقي .
ثانيا : ماكيت البناية الذي يحمله عامل التنظيف ، كان لغة مسرحية عالية الترميز والتعبير الدلالي المكثف ، عامل التنظيف وهو يلمع وينظف هذه البناية وكما يسميها هي ( مقبرة الاحياء الجماعية ) .
ثالثا : مشهد الشاب وهو يضرب بيده وبقوة تلك القضبان الحديدية تعبيرا عن غضبه وثوريته واعلان تحديه ازاء الفاسدين.
رابعا : مشهد لعب القمار , الذي هيمن فكريا وجماليا على فضاء العرض وسينوغرافيته ، كأنهم يلعبون القمار فوق سطح البناية , انهم يقامرون فوق رؤوس الفقراء والمعوزين ، فوق رؤوس البسطاء من الناس ، يقامرون حين الخسارة بطائراتهم الشخصية وحتى بزوجاتهم اذا اقتضت الخسارات المخجلة ، لتسقط مائدة القمار على راس المرأة الثائرة / الرمز .. المبتلية بهم وبنجاستهم .. وفوق هذا وذاك ، انهم يبحثون عن الشرف .
خامسا : جثة الشاب القتيل وهي واقفة كما الأشجار التي تموت واقفة . دلالة بالغة التأويل .
سادسا : عامل التنظيف وهو يقبل قدمي المرأة ، وهذا ما اكده الاخراج في تفجير طبيعة العلاقة بين الاثنين ، فالعامل هنا هو المتفاعل والمتعاطف والغائص في انتمائه للقضية وللسؤال ، يقبل قدميها لأنه صوت العقل ، صوت القلب ، يناجيها حزنا ومرارة فيقول ” لن نغفر لنا .. لن نسامحنا ” ولكن الامر في النهاية لا حيلة له فيه ، وليس بيده .
سابعا : التأكيد الاخرجي وعبر الاداءات المتنوعة والجريئة ، على السخرية اللاذعة من بعض رجال الدين ممن اتخذوا من الدين غطاء لفسادهم وخستهم وشذوذهم ودناءتهم .
ثامنا : استخدام السبيكر من قبل المرأة ، دلالة اشهارية اعلامية بوصف ان الاعدام شنقا يحدث في ساحة عامة / فرجة مسرحية ، وعلى الجميع الانضمام لهذا الاحتفال .
مما تقدم نرى ، وعبر هذه اللمحات الاخراجية التي تفرض نفسها كلغة مسرحية فاعلة ومؤثرة ، الا انها كانت بحاجة الى التنبيه الى ما يسمى بسر اخفاء الصنعة المسرحية ، وهو اخفاء هذه الصنعة والتحايل عبرها بهدف تعزيز الايهام ، فليس مرغوبا فيه هنا الكشف عن الممثل وهو يخفي نفسه عبر فتحة خروجه بعد نهاية المشهد واظلام المكان ن او دخوله بداية المشهد للمكان المراد انارته ، يبدو ان الاشكال هنا في التصميم المنظري اصلا ، الذي لم يحسب حسابه لتجاوز مثل هذه الهنات ، وان كانت بائنة للعيان ، الا انها لم تؤثر على التحولات المشهدية كثيرا ، لكن كان يستحسن عدم وجودها بضبط سر اختفاء الصنعة المسرحية . ويجدر التنويه والتساؤل ايضا الى ظهور الفتى حاملا الكلاشنكوف وهو يقاوم سكنة البناية دفاعا عن سيدته وراح يطلق الرصاص في الهواء ومن ثم يظهر قتيلا .. من اين حصل على السلاح ؟ وهو رمز للفتيان المغلوب على امرهم المحسوب على العوائل الفقيرة في البناية / الوطن , اعتقد ان هذا المشهد جاء عاجلا لا يحمل مدلولاته وبواعثها كما يتحتم دراميا .
التمثيل :
اقول بداهة ، ان الممثل هو العنصر الاساس لتفجير طاقة العرض ، ذلك الممثل المستند في ادائه على : ( الفاعلية و الخبرة الاحترافية ) .. فيبدو ان المخرج استند الى أداءا تمثيليا محترفا ، فنجد جميع الممثلين هنا يتنافسون بمشروعية ، من اجل ابراز طاقتهم الادائية الملفتة للنظر ، ولكنني انحاز هنا مباشرة الى اداء المرأة اولا .. الفناة أماني بلعج ، حضورا مسرحيا ( كاريزما الشخصية ) اصلا ، وطبقة صوتها المؤثرة ( تنغيما وتنويعا وقوة ) وفعلها النفسي التقمص بامتياز ، هذه الصفات التي جاءت متطابقة تماما مع الشخصية التي اوردها المؤلف في النص ، وحسنا فعل المخرج في اختياره لهذه الممثلة العملاقة ، اذ لا اتصور لمثل هذا العرض ان يستند الى وتد ادائي لغيرها من الممثلات ، قد اكون مبالغا او مثاليا في رأيي ، لكن هذه الحقيقة التي ينبغي علي قولها بقناعتي النقدية المتواضعة .
كما أجد نفسي ايضا منحازا الى اداء الممثل الفنان احمد العمري شخصية ( عامل التنظيف ) الذي تجاوز بحضوره وادائه وصدقه وانتمائه الواضح لشخصيته المؤداة بقضها وقضيضها ، تجاوز حدود الشخصية المرسومة نصيا واخراجيا ، فقبض على فضاء العرض برمته في لحظات ظهوره ( راهبا / قديسا / صوفيا / عقلانيا / شاهدا لعصر الصمت ) الذي صنع تأثيره علينا ، وسدد كراته الادائية الى الهدف مباشرة ، فكان هو الوتد الثاني لخيمة العرض بامتياز . فأثبت لنا اطروحة مفادها : ليس بالصوت وحده يحيا الممثل ، بل بكيفية استثمار هذا الصوت ، وسيولة تغلغله مع الاحساس الداخلي والاداء الجسماني .
الفعل الكوميدي كان حاضرا برغم الفاجعة , وهذا يحسب للعرض , لكنه ليس فعلا كوميديا هامشيا عابرا ، بل هو ذلك الفعل المتفلسف ( الهايدغري الضاحك ) المنضوي تحت يافطة فن السخرية الصعب ، والذي تمثل هنا في اداء شخصية ( امام الجامع ) الفنان محمد بن معروف، جرأة نصية حوارية ، وشجاعة منبرية اخراجية ، وتكاملية عناصر الاداء لكوميديا الموقف بحسب جون دوي ، وتحقق عناصر هذا الاداء ، بدءا من الاسترخاء العالي ، ومرورا بتحولات الشخصية وتركيبة انسياب تناقضاتها بين الايمان والدجل ، ومديات التاثير المهيمنة على التلقي بقناعة تامة ، واذا استعرنا مقولة ( ان لكل عرض فاكهته الذي يجب ) فكان امام الجامع / الممثل فاكهة هذا العرض .
التقنيات :
لا ادري لماذا اعتدنا في خطابنا النقدي المسرحي ، ان نتوقف اخرا عند التقنيات المسرحية برغم انها الاساس في تثوير جماليات العرض لنا ، سمعيا وبصريا ، ومنذ لحظة انطلاقته حتى نهاية مشهده الاخير ؟ ولو ان المرور على الاخراج يعد مرورا على التقنيات احيانا كثيرة .
عمد العنصر الضوئي الذي كان من تصميم الفنان ماجد المعيني وتنفيذ الفنان حميد العسيري، عمد هنا الى ملاحقة الامكنة المراد انارتها بنجاح ، رغم عدد هذه الانتقالات المكانية بواقعيتها احيانا وبترميزاتها ودلالاتها اللونية احيانا كثيرة .. ورغم تعددية مشاهد الاظلام بسبب هذه الانتقالات وكان من المفضل تجاوز هذه ( الاظلامات ) المتكررة بطريقة اخرى لتحقيق انسيابية المشاهد وتراتبيتها دون هذه القطوعات . اقول رغم هذه التعددية فان الاضاءة حققت ايقاعها البصري بنجاح .
الموسيقى سحر المسرح ، والمؤثر الصوتي مهما كان نوعه ، يعد بمثابة ذلك الجدار الضخم الذي يستند اليه العرض ، وهذا ما لمسناه هنا بانحياز تام .
كما حققت لنا الازياء بنوعيها ( المصمم و المختار ) فاعلية معقولة وموضوعية جاءت متناغمة مع القصدية الاخراجية لفلسفة العرض ورؤياه الحداثوية الواضحة .
mh_habeeb@yahoo.com