- كيف تلقت كل من [ آمنة وأنيسة ونادية وكريمة وسلمى ونوال ودرية والأستاذة فاطمة وأبلة حكمت ] خبر رحيلها المفاجئ؟
على سجادة بنية مزودة بزخارف نباتية خضر لا نهائية تجلس “آمنة” حزينة تسيل من عينيها عبرات ساخنة، وقد وضعت راحتها اليمنى على خدها يأسًا وكمدًا، بعد أن جففت دموعها التي ظلت تنهمر طوال الليل،
ففور سماعها نبأ الرحيل، هرعت إلى مسجد الحصري بمدينة 6 أكتوبر، تاركة “سيدها المهندس” ينادم نفسه بكأس ويسكي في تلك القرية النائية.
افترشت آمنة الأرض وباتت ليلتها في القاعة الملحقة بالمسجد تبكي وتتألم وتتحسر وتمسح دموعها وتختلط في عقلها ذكرى شقيقتها هنادي مع صوت الكروان الحزين.
وعند سطوع شمس الأحد 18 يناير 2015 أفاقت آمنة على أصوات وهمهمات ونحيب، فجلست متكومة داخل أحزانها تتابع الداخلين والخارجين، فلمحت المحامية “الأستاذة فاطمة” تدلف من باب القاعة بحركة سريعة وفستان أسود ونظارة سميكة العدسات متأبطة دوسيهات وملفات، محاولة استثمار النظارة التي تغطي عينيها لمداراة الدموع المتدفقة على وجنتيها.
همّت آمنة أن تنهض لترحب بها، لكنها آثرت البقاء في مكانها المنزوي تتابع القادمين وتتأملهم، وفجأة سُمع صراخ وهدير صوتي مقبلين من الشارع العام وازدادا ارتفاعًا عندما دخلت صاحبته القاعة،
إذ كانت زينات صدقي مالكة المخبز في (القلب له أحكام) تصطحب معها جارتها الدكتورة “كريمة” ذات الرداء الأسود، بينما “كريمة” ترجوها أن تخفض صوتها قائلة بهمس: (نحن لسنا في بولاق الآن)!.
(الأستاذ وصل.. الأستاذ وصل).. انطلقت الأصوات واشرأبت الأعناق نحو مدخل القاعة، ونهضت آمنة لترى من القادم، فلمحت طربوشا أحمر أول الأمر، وسرعان ما عرفت من يضعه على رأسه، فشهقت وهتفت: (الأستاذ محمد عبد الوهاب نفسه..
وتساءلت كيف قام من الأموات؟)، ولاحظت أنه يمسك باليد اليسرى لطفلة صغيرة، أدركت على الفور أنها “أنيسة”، الطفلة المعجزة التي ظهرت للمرة الأولى في فيلم (يوم سعيد)، بينما رجل آخر منكوش الشعر يمسك باليد اليمنى للطفلة، وسمعت من يناديه : (تفضل أستاذ محمد كريم).
بدت الطفلة أنيسة بجلبابها البسيط ومنديلها الذي تغطي به شعرها وعينيها المحمرتين خارجة من نوبة بكاء حادة، فاقتربت منها آمنة وانحنت قليلا، ورفعتها إلى أعلى واحتضنتها بقوة، وغمرتها بقبلات لتطمئنها،
لكن أنيسة قالت بصوت مبلل بالدموع: (عارفة يا خالتي آمنة.. عارفة إن طنط ماتت)!
ضمتها آمنة في صدرها وانسالت واختلطت دموعهما معًا، ثم استأذنت عبد الوهاب ومحمد كريم في أن تبقيها معها حتى تنتهي مراسم الجنازة.
عادت آمنة إلى موقعها على السجادة، وأجلست أنيسة على حجرها، ومضت تتابع المشهد الحزين بقلب واجف وموجوع.
لمحت على البعد فتاة رقيقة ترتدي فستانا أسود عاري الذرعين، وترتسم على محياها آيات النعمة والثراء، رغم مسحة حزن عميق تستقر في قاع العينين الواسعتين، فعرفتها على الفور وغمغمت:
(والله فيك الخير يا نادية لطفي).. واستطردت: (يبدو أن الحريق الذي تعرضتِ له قد طهّرك من الكذب والخداع الذي أضاعا أباك وعمك.. ترى هل تنامين الآن؟).
أُغلقَ باب القاعة فجأة بفعل هبوب رياح شديدة من جهة الشمال، فنزعت آمنة “طرحتها” وطوقت بها الطفلة أنيسة التي فغرت فاها عند دخول “فوزية” حاملة صندوقا به أسلحة ستوصلها للثوار في الإسماعيلية.
كانت متشحة بالسواد، وقد تأبطت ذراع “ليلى” التي لم تلحق تبديل ملابس المدرسة الثانوية بعد أن خرجت من (الباب المفتوح) في مظاهرة ضد الاحتلال الإنجليزي رغم اعتراض الناظرة.
جففت الفتاتان الدموع المنسابة على خدودهما، واستسلمتا لحالة بكاء صامت انعكس على وجهيهما في صورة هم دائم وحسرة مؤلمة.
قبل رفع أذان الظهر بربع ساعة تقريبًا تدفقت الجماهير على المسجد، وبات الزحام لا يحتمل، فتوترت أنيسة وسألت آمنة ببراءة: (كل هؤلاء الناس حزانى مثلي على طنط؟)،
فربتت كتفها ومنحتها قبلة واحتضنتها وهمست: (نعم يا حبيبتي.. فالست كانت محبوبة جدًا.. وظلت تعمل بجدية طوال 75 عامًا، وكانت تسعى إلى أن..).
توقفت عن الكلام، إذ لمحت وجها أليفا يخترق الزحام ويفسح لها الجميع الطريق لتمر بسلام. صاحت آمنة: (ياه.. الست درية.. والله فيك الخير بعد كل العذابات التي رأيتها في أروقة المحاكم.. أتمنى أن تكوني قد وجدت حلا).
بسرعة البرق وصلت درية إلى مبتغاها، حيث جلست بجوار (سلمى) التي وضعت بندقيتها بجوارها، وقد ارتدت فستانا مطرزا على الطريقة الفلسطينية،
أما ليلى الحزينة على (انطفاء الشمس) بعد أن زوجوها بالأمر رجلا لا تحبه، فقد لاذت بالصمت الثقيل وهي تجلس بجوار سلمى الفلسطينية.
أراحت درية كفها اليمنى على فخذ سلمى وواستها قائلة: (تجمعنا مأساة متشابهة.. أنت يا سلمى تكابدين أوجاع احتلال إسرائيلي بغيض يسطو على (رض السلام)، وأنا أقاوم جبروت رجل مستبد يرفض الطلاق، والقانون للأسف معه).
أما ليلى فتابعت الحوار دون أن تنطق بحرف، واكتفت بتأمل توافد المعزين والمعزات بعينين منكسرتين!.
فجأة انتشرت في القاعة غمغمات وهمهمات مصحوبة بتساؤلات واستفسارات، وقيل إنها هي.. بردائها الأسود المحتشم وأحزانها الدائمة على حبيب القلب الذي استشهد في حرب فلسطين والابن المسروق من قبل زوج قاس مشغول بالسلطة ومجالسة الملك والباشوات.
إنها “نوال” الرقيقة التي غرقت في (نهر الحب) وقد جاءت لتودع صديقتها الحميمة، ولم تفلح في مداراة دموعها، ففضحتها حتى اقتربت منها “فايزة” الخارجة توا من (الطريق المسدود) وهمست في أذنها:
(انتبهي.. فالجميع يرنو إليك ويترصدك، كما ترصدني ووشى بي العمدة والأجزجي وزميلاتي المدرسات).
عند دخول مجموعة من الشباب ترفع لافتة مكتوب عليها (وداعا سيدة الشاشة العربية) وقفت الطفلة أنيسة وسألت آمنة بلهفة: (من هي سيدة الشاشة يا خالتي؟).
لم تملك آمنة دموعها وضمت الطفلة بحنان إلى صدرها وهمست في أذنها وهي تشير إلى الجالسات في الجانب الآخر: (إنها كل هؤلاء.. إنها نحن).
فجأة سكتت الأصوات، وتلاشى العويل وانطفأ الصراخ، وخيم صمت هادئ وعميق على القاعة والمسجد، وتنفس الجو برائحة عظمة، وصنعت الجماهير الغفيرة بشكل عفوي ممرًا صغيرًا كي تسير فيه السيدة التي وصلت توًا بأناقتها المعهودة.. تايير أسود ونظارة طبية ونظرات وقورة حزينة، وسمعت أصوات مرحبة:
(من هنا يا أبلة حكمت)، (تفضلي يا هانم)، لكن الهانم كانت تعرف طريقها جيدًا، إذ توجهت نحو المكان التي تجلس فيه آمنة وعلى حجرها تكومت أنيسة.
وقفت آمنة من باب الاحترام، فصافحتها أبلة حكمت وربتت كتفها، ثم انحنت قليلا وقبلت وجنة أنيسة، وأمسكتها من يدها واصطحبتها نحو المكان الذي تجلس فيه فاطمة وكريمة ونادية ودرية ونوال وفوزية وليلى وسلمى وفايزة.
نهضن جميعًا وصافحن أبلة حكمت بتقدير وإجلال، وأفسحن لها مكانا لتجلس بجوارهن، بينما تابعت آمنة المشهد بقلب يخفق من فرط التوتر.
عنما جاءوا بالتابوت ازداد اللغط وعلا الصراخ وعزفت أناشيد النحيب، ولم تتمالك “نوال” نفسها، فسقطت على الأرض مغشيًا عليها، وهرعت “ليلى” نحو التابوت وهي مصرة على المشاركة في حمله،
وقد تبعتها كل من “فوزية” وسلمى الفلسطينية وصنعتا صنيعها، بينما ظلت درية تجيل بصرها في المكان بحيرة بالغة، فلما تأكدت ألا أحد يراها، تركت دموعها تنساب بحرية.
مع ارتفاع معدل الصراخ والبكاء شعرت أبلة حكمت أن رجفة عنيفة اعترت أنيسة، فحملتها في حجرها بحنان، ولثمت خدها الأيسر وهمست للمرة الأولى منذ دخلت القاعة:
(لا تقلقي ياحبيبتي.. إنه الحزن العظيم الذي استحوذ على قلوبنا جميعا بسبب فراق أعز النساء وأنبلهن)، فتعلقت أنيسة بعنق أبلة حكمت وأخفت رأسها في صدرها،
في حين ركضت آمنة نحو المقعد الذي تجلس عليه الست الناظرة واستأذنت أن تحمل عنها أنيسة، لكن أبلة حكمت رفضت بإشارة من رأسها، فما كان من الطفلة الموهوبة إلا أن هجرت حضن الناظرة وارتجلت وسارت بهدوء خلف التابوت الذي عرف طريقه نحو باب الخروج.
مشت خلفها آمنة، وفجأة توقفت أنيسة، وعادت إلى أبلة حكمت وصاحت ببراءة موجعة: (هل انتهى كل شيء يا أبلة؟ ألن نرى طنط مرة أخرى؟).
هنا.. لم تتمالك أبلة حكمت نفسها، وانفجر من عينيها نهرا دموع حارقة، واحتضنت الطفلة وقالت بصوت مبحوح يختزن حزن العالم كله وهي تشير إلى كوكبة السيدات اللاتي صادقن الحزن منذ ليلة 17 يناير 2015:[ لا يا حبيبتي سنراها على الدوم.. فهي ستبقى طالما بقينا نحن إلى الأبد، فليرحمها الله ].