أخيرا .. وأخيرا جدا، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى بين إسرائيل والمقاومة، بعد أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ نشأتها عام 1948، وذلك بفضل الأداء البطولي للمقاومة، والصمود الأسطوري لشعب غزة، وضغوط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على بنيامين نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل، ليس حبا في الفلسطينيين وإنصافا لقضيتهم بالقطع، وإنما لأن الرجل ـ كما قال ـ لديه اهتمامات وإستراتيجيات أخرى لا يريد لهذه الحرب أن تشوش عليها أو تعطلها.
وطبقا لما نشر فإن الصفقة التي تضمنها الاتفاق هي الصفقة ذاتها التي كان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، قد قدمها في مايو 2024، وقال إنها صيغت بالترتيب مع إسرائيل، ثم وافق عليها مجلس الأمن، ووافقت عليها المقاومة الفلسطينية، لكن إسرائيل ظلت تراوغ وتماطل على أمل أن تصل إلى وضع أفضل يفضي إلى استسلام المقاومة، وظلت الإدارة الأمريكية تضاعف دعمها المالي والعسكري لإسرائيل، وظل الطرفان وحلفاؤهما يتهمون المقاومة كذبا بتعطيل الاتفاق، حتى جاء ترامب بتهديداته وضغوطه وحساباته الدولية، فقرر إنهاء الحرب (العبثية) وإحياء الصفقة القديمة، مادامت إسرائيل غير قادرة على هزيمة المقاومة وتحقيق النصر المطلق الذي وعد به نتنياهو.
لقد استمرت الحرب أكثر من 15 شهرا، بالتحديد 471 يوما، ووصلت إلى حالة ميئوس منها، فجيش الاحتلال يقتل ويخرب ويدمر لكنه غير قادر على تحقيق أهداف إستراتيجية باعتراف قادته العسكريين، والمقاومة رغم الخراب والدمار والحصار مازالت قادرة على أن تتحرك في شمال القطاع وجنوبه، تقاتل وتنصب الكمائن وتصطاد الدبابات وحاملات الجنود، وأهل غزة لم يركعوا ولم يتمردوا على المقاومة، لم يسمع لأحدهم كلمة شقاق، ولم يرفع أحدهم الراية البيضاء، الميت منهم شهيد والحي مقاوم، بينما تستعر النارفي إسرائيل إذا قتل ضابط أو جندي، وتشتعل القلوب غضبا ومقتا إذا مات أسير، وتتشقق الحكومة، وتنطلق المظاهرات الصاخبة مطالبة بانسحاب الجيش وإعادة الأسرى فورا.
وهذا هو الفارق الكبير الذي دفع الأمور دفعا في النهاية إلى إتمام الصفقة، فئة تؤمن بعدالة قضيتها، تقاتل في سبيل الحق والحرية والمقدسات، وفئة تقاتل في سبيل الهيمنة والتوسع، يقف معها الغرب بجبروته وماله وسلاحه وعتاده، ويوفر لها أسباب الحماية، لكن الفئة القليلة المحاصرة استطاعت أن توقظ المنظمات الدولية ضد دولة إسرائيل الخارجة على القانون، وتسقط الهالة الأخلاقية والحضارية (الكاذبة) التى أحاط بها الإسرائيليون أنفسهم، فصاروا يواجهون لأول مرة في التاريخ اتهامات بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي، بعد أن كانوا يوهمون العالم بأنهم ضحايا هذه الجرائم، ويجرجر قادتهم إلى المحكمة الجنائية الدولية ليحاكموا كمجرمي حرب، وصدق الله العظيم: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”.
كانت إسرائيل تبني حساباتها على أن القتل والتدمير واغتيال القيادات (هنية والسنوار والعروري وحسن نصر الله وغيرهم) سيدفع المقاومة للاستسلام، لكن حساباتها خابت، لأنها لم تدرك أنها تتعامل مع قوم يحرصون على الموت حرص أبنائها على الحياة، ويوقنون بعقيدة راسخة أن شهداءهم في الجنة وقتلى أعدائهم في النار.
دفعت غزة ثمنا باهظا في هذه الجولة، ودفع أبطالها أرواحهم راضين مرضيين، لكنهم في النهاية انتصروا على إسرائيل، وعلى الطغيان الدولي والتخاذل العربي والإسلامي، بشهادة أعتى أعدائهم من التيار الديني المتطرف في إسرائيل وأمريكا، وبالفرحة العارمة التى عاشها الشعب الفلسطيني بكل طوائفه في القدس والضفة والشتات، مقابل الحزن العام في إسرائيل.
يكفي هؤلاء الأبطال أنهم خرجوا من الجولة كراما مرفوعي الرءوس، لم يتنازلوا عن ثوابتهم التي أعلنوها طوال مراحل الحرب والمفاوضات، وأسقطوا أهداف نتنياهو كلها، وفي مقدمتها استعادة الأسرى بالقوة العسكرية واحتلال غزة وتهجير أهلها وإعادة الاستيطان إليها، وتنفيذ خطة الجنرالات واحتلال محوري نتساريم وفيلاديلفيا، وإغلاق معبر رفح، واستمرار الحصار والتجويع، وفرض السيطرة الأمنية على غزة للأبد.
وبهذا المفهوم تكون المقاومة قد انتصرت، بل حققت انتصارات متعددة داخل انتصار واحد، فكسرت مقولة الجيش الذي لايقهر، وقتلت أكبر عدد من الإسرائيليين في تاريخ الكيان الصهيوني، واستطاعت لأول مرة أسر أكبر عدد منهم، وضربت صواريخها في عمق تل أبيب، ودمرت دبابات الميركافا، وقاتلت من المسافة صفر، واضطرت العدو إلى أن يتفاوض ويتراجع عن شروطه، كما اضطرت أمريكا إلى أن تنتظر منها الرد مرات عدة.
لكن الانتصار الأكبر كان انتصارها الأخلاقي، فقد كسبت احترام العالم، وفرضت قضيتها على جدول أعماله باعتبارها قضية شعب يريد أن يتحرر من الاحتلال، ولأول مرة عرفت شعوب أوروبا وأمريكا أن إسرائيل دولة إرهابية، وخرج شبابها في مظاهرات متعاطفا مع شعب فلسطين، يطالب بحريته وحقه في دولته المستقلة، ولأول مرة تحدث انشقاقات داخل الحكومات الغربية بسبب تأييد تلك الحكومات للعدوان الإسرائيلي.
هذا الانتصار الأخلاقي مهم جدا في القضية، وقد قال خبير الحرب الألماني كارل كلاوزفيتز في كتابه الشهير(عن الحرب) في القرن التاسع عشر: “الحرب صراع مادي وأخلاقي، والقوى الأخلاقية قد توازن عدم التكافؤ في القوى المادية”، أما من ينظرون إلى عدد القتلى وحجم الدمار فقط، ويعتبرون ذلك مقياس الهزيمة، فنظرتهم قاصرة، لأن الزلازل والأعاصير والحرائق والسيول قد تخلف دمارا وقتلى أكثر من الحروب.
القضية هنا ليست حماس أو الجهاد أو أي فصيل آخر، وإنما المقاومة كحركة للتحرر الوطني، وممارسة للحرية ضد الاحتلال، كفكرة إنسانية واختيار حضاري، وإرادة شعب تربى عليها جيلا بعد جيل، وكل جيل يضيف إلى الجيل الذي سبقه حتى تتراكم الخبرات، وعلى هذا فإن طوفان الأقصى يشكل إضافة نوعية وإستراتيجية كبرى سيظل تأثيرها ممتدا فى مستقبل النضال الفلسطينى، قد تتغير الأسماء والمسميات وتتبدل القيادات، ولكن تبقى المقاومة هي الأصل وهي الجوهر، وهي شرف الأحرار على مر التاريخ، فلا نامت أعين الجبناء.