ما إن وقعت إسرائيل اتفاقية الصفقة لوقف الحرب في غزة حتى استدارت إلى الضفة الغربية، تقتحم المدن والمخيمات بالدبابات والجرافات، وتعيث فيها قتلا وتخريبا وتدميرا، دون أن تردعها اتفاقات أوالتزامات مع السلطة الفلسطينية، بينما تتحدث تقارير صحفية إسرائيلية عن خطط وتجهيزات واتصالات تقوم بها حكومة بنيامين نتنياهو مع الإدارة الأمريكية الجديدة للحصول منها على ضوء أخضر لضم الضفة الغربية بالكامل، أو أجزاء كبيرة منها، وإقناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتمرير مخطط الضم، وحمايته دوليا.
ومن الطبيعي أن يبدأ التصعيد في الضفة بمدينة جنين في أقصى الشمال، التي يقطنها حوالي 45 ألف نسمة، وتضم مخيما يعيش فيه حوالي 18 ألف فلسطيني، وكانت دائما من أنشط مناطق الانتفاضات الشعبية والاشتباكات المسلحة ضد جيش الاحتلال، خاصة خلال العدوان على غزة، حيث نمت فيها فصائل المقاومة نموا كبيرا، ومن ثم كان تركيز الهجمات الإسرائيلية الشرسة عليها للتذكير بقوة الردع الإسرائيلية التى أسقطها طوفان الأقصى.
وكانت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية قد نفذت عملية عسكرية في جنين قبل أن تقتحمها القوات الإسرائيلية، وقالت السلطة إنها تستهدف فرض السيطرة على المدينة والمخيم واستعادة النظام حتى لاتتحول جنين إلى غزة أخرى، لكنها بعد أيام من المواجهات المؤسفة مع الفصائل المسلحة اصطدمت بالتصعيد العسكري الإسرائيلي الكثيف برا وجوا، وسقوط المزيد من القتلى والجرحى، وتدمير العديد من المباني، فآثرت الانسحاب تاركة المدينة والمخيم تحت النار والحصار.
وقد بدا واضحا من هذا التصعيد أن إسرائيل تتصرف في جنين كوحش جريح مهزوم، يثأر لكرامته المهدرة في غزة، وأنها أسقطت من حساباتها تماما أن الضفة تقع تحت ولاية السلطة الفلسطينية، شريكة اتفاقات أوسلو، وليست تحت ولاية حماس أو الجهاد، ولم يتورع وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن التهديد أمام الكنيست بتوسيع الاقتحامات والاعتقالات، مؤكدا أن جنين “ستكون البداية والنموذج الذي يعمم في جميع أنحاء الضفة الغربية، وستشكل تحولا في استراتيجية الجيش الإسرائيلي بالضفة، وسنطبق فيها الدروس التي أخذناها من غزة، خاصة أسلوب الغارات المتكررة”.
هذا التهديد (الرسمي) كان كافيا للتأكيد على أن إسرائيل دخلت تاريخا جديدا، سوف يدفعها إلى إسقاط أية اتفاقات أوالتزامات سابقة تجاه أي طرف شريك في محيطها الإقليمي، صحيح أنها اعتادت على تجاهل اتفاقات أوسلو منذ توقيعها مع السلطة الفلسطينية عام 1993، ولم تنفذ منها اتفاقا واحدا غير التنسيق الأمني الذي يصب في صالحها وحدها، لكنها بعد أكثر من 15 شهرا من الحرب التي مزقتها لم تعد تثق في السلطة، ولا في أحد يحمل الهوية الفلسطينية، ولو كان محمود عباس نفسه، وما تفعله بجنون بالغ في الضفة الغربية سيجعل جنين تسير على خطى غزة، وسيفرض عليها أن ترفع سلاح المقاومة باعتباره السبيل الوحيد لمواجهة أطماع التوسع الاستيطاني.
ولعل الرسالة قد وصلت بجلاء إلى من يهمهم الأمر، فالرهان على الاتفاق مع إسرائيل رهان خاسر، والثقة في وعودها وعهودها خطأ كبير، هي لا تلتزم باتفاق إلا إذا ووجهت بالقوة الجبرية، وما وجدت ثغرة لدى طرف إلا نفذت منه بالحيلة والخديعة كما كان يفعل المرابي اليهودي في الروايات القديمة، وهاهي تطرح احتمالات للتفلت من استحقاقات المراحل التالية في اتفاق الصفقة، وتتجه إلى مزيد من الاستيطان في القدس المحتلة، وتتلكأ في الانسحاب من لبنان، وتعلق الأمر على ترتيباتها مع الإدارة الأمريكية، وكأن اتفاقها مع حكومة لبنان بلا أدنى قيمة، وما كان احتلالها لجبل الشيخ في سوريا والمناطق المتاخمة إلا انتهازا لظرف طارئ، كأي جبان ينقض على خصمه أثناء انشغاله بجنازة أبيه.
لذلك كان طوفان الأقصى اختيارا عمليا وتاريخيا مناسبا للتذكير بحقوق الشعب الفلسطيني (المنسية)، حقوقه في الحرية والاستقلال والعودة إلى وطنه، والتأكيد على أن تلك الحقوق لم ولن تسقط بالتقادم، وأن هذا الشعب لديه القدرة على التعافي والمقاومة، مهما تكبد من تضحيات، وأن أوهام التهجير التي تداعب اليمين الصهيوني المتطرف وزعيمه القابع في البيت الأبيض الأمريكي لايمكن أن تتحقق.
كان الطوفان عملا فوق العادة، وكان الصمود جهدا فوق الطاقة، وقد سجلت المقاومة في معركة الطوفان واحدة من أعظم البطولات في تاريخ فلسطين، وفي تاريخ العرب والإسلام، وفي تاريخ حركة التحرر الوطني على مستوى العالم، وما زال رجال الطوفان يحققون بتباتهم مكاسب عظيمة لقضيتهم، ويكفيهم فخرا أنهم حرروا الأمة كلها من عقدة الهوان، وأقاموا الحجة على المستضعفين، وجعلوا أهلهم يذوقون حلاوة النصر بعد عقود طويلة من الهزائم النفسية.
ووسط مناخ عام من الاستكانة والاستسلام كانت المقاومة وحدها قادرة على أن تأخذ زمام المبادرة، وتواجه العدو بالسلاح، وتفاوضه من موقع القوة، وتفرض شروطها، كما كانت قادرة على أن تجدد صفوفها، وتجند أضعاف من سقطوا من شهدائها وتدربهم وهي في قلب المعركة.
ولن ينسى التاريخ أن عددا من وزراء حكومة نتنياهو انخرطوا في البكاء بعد توقيع الاتفاق مع المقاومة، وأن جنرالات الحرب الإسرائيليين يستقيلون الواحد بعد الآخر على خلفية الإخفاقات التي تعرضوا لها في مواجهة الطوفان، أو كما تقول أوساطهم الصحفية: ” يتساقط الواحد منهم بعد الآخر، من رئيس الأركان إلى قائد القوات الجنوبية وقائدي سلاحي الجو والبحرية”، لأنهم أدركوا حقيقة هزيمتهم، ولو أنهم استطاعوا مواصلة الحرب لفعلوا حتى يحققوا النصر المطلق الذي أراده نتنياهو.