رحل جبريل ..والناس من أهل الدنيا صنفان ،أحدهما يرحل بعد أن يملأ الدنيا ضجيجا وكبرا وعجبا وخيلاء، ولا يلتفت الناس إليه ولا يكتثرون ببقائه أوبرحيله، ويبقي فصيل العظماء الراحلين ، يحيون في عزة وشرف وأنفة، ويرحلون في صمت وتؤدة وسكينة وجلال مهيب ووقار يليق بهم ،وبما قدموه من عطاء وإرث وأثر صالح يدوم مع مر الزمان.
وتمضي الحياة وتتابع الأيام والسنون ويأتي “اليقين” والقدر المحتوم وتنطوي صفحات مشرقة من صفحات الزمن الجميل والتي وإن غابت أصواتها العذبة وصورها المرئية فروحها الطاهرة تظل تلاطفنا وتحدثنا أحيانا بما لها من مكانة في الوجدان..
ورغم مرارة الفقد وألم فراق الأحبة تحلو الذكريات أحيانا حين تقفز للأذهان من جديد..
ولن أحدثكم عن رصيد الإبداعي الثري الخالد، لدي “جبريل”..
بل عن غيض من فيض رصيده الإنساني الوفير في قلوب كل من عرفه أو تحدث معه..
لقد وصفه تلاميذه وكل من أحبوه بأنه إنسان خلوق بكل ما تحمله الكلمة من معان..يكسو وجه الشموخ وعلي شفتيه ابتسامة عريضة وفي قلبه امتنان..يعمل في صمت وينتج ويبدع بدأب وجد وجلد..ولا ينتظر المقابل أو شيئا من أحد..
ومضي للقاء ربه مستغنيا بزهده..ومكتفيا برصيده في القلوب وبسطوره الفياضة بالجمال والمعاني والرسائل ..
ومنبع العظمة أن تحيا لهدف نبيل ، أومقاصد سامية وبغية رغبة في العطاء وتقديم كل ما هو نافع ومفيد..
لقد زاوج أديبنا المبدع الراحل بين رغبة جامحة في إبداع لا محدود ـ أثمر عشرات الروايات وآلاف المقالات والدراسات والتقارير ـ وبين حرصه علي اكتشاف المواهب ودعم صغار الأدباء والصحفيين بالنصح والتوجيه ودروس خاصة لكيفية امتلاك مهارات وأدوات اللغة والبناء المبدع لكل عمل أدبي ،ووقفات ومحطات الإعداد الإحترافي الشامل ،ثم الانطلاق نحو التألق والتميز اللامحدود..
ولم يخش يوما من منافسة جيل جديد أو أن يلمع في سماء الأدب كوكيب واعد ،فالنجم الأكبر يبسط نوره للجميع ويمهد الطرق للكل ،ويفتح ذراعيه لأبنائه بحب وحلم وترفق لا نظير له..
لم يعرف الأنانية ولا التقوقع حول الذات كما يفعل البعض،وأجمع أصدقاؤه، وأبناؤه أنه لم ينل كل مايستحق من تقدير وجوائز، ولكن يكفيه أنه رحل زاهدا قنوعا راضيا بما قدر له وبما قدمه من رصيد لوطنه ،ولدي الأنقياء المنصفيين.
كان متواضعا شامخا ،حين تلقاه لا تجد إلا انسانا حنونا وأخا عطوفا ،وكأن رحلته الطويلة مع الادب الراقي ألبسه حلة من الأدب الجم وتاجا من العظمة والبهاء والتواضع.
وأذكر أنه ومنذ وطأت أقدامي بيتنا “المساء” في رحاب مؤسسة دار التحرير العربية أوائل التسعينيات من القرن الماضي.. كنت أرمقه مع العظماء بعين الإعجاب والإجلال والإحترام ..
وكان ينثر إبتساماته حين يلقانا ويحدثنا جميعا بلغة الأب الناصح الأمين..
ولن انسي تشجيع لي وثناءه علي ما أكتب من مقالات، وكلما تحدثت معه عن الكتابة الإبداعية والتي تعني في المقام الأول بالإنسان وتعزيز نسقه القيمي والأخلاقي..
ومع رحيل الاستاذ والمعلم فقد وصل قطار الإبداع إلي محطته الأخيرة ،تاركا إرثا أدبيا ضخما وعناوين لأعمال أدبية خالدة ، نسجها بحروف مبدعة مستقاه من واقع عايشه ومن تجارب خاضها ومن مشاهد رأها وخيال فريد نسجه بحكمة وإقتدار..
ومضي بنا في رحلات أدبية ممتعة ليرصد ملامح المجتمع بأوجاعه وطموحاته وأفراحه وأتراحه في سياقات قيمية فريدة بحثا عن الهدف الأسمي والفكرة الأمثل ،والانتصار لقيم الخير والحق والعدل والجمال.
التميز الفائق في كتاباته ورواياته كانت السمة لأسلوب كاتبنا العظيم ،والتي جمعت بين السهل الممتنع والممازجة بين الرمزية ورصد الواقع بحلوه ومره..
لقد فقدت مؤسستنا دار التحرير أحد رموز الزمن الجميل وأحد أعمدتها الرئيسة وأعلامها العظماء بعد رحلة عطاء طويلة استمرت أكثر من نصف قرن في الابداع الروائي والصحفي.
ويجدر بنا أن نتوقف قليلا عند محطات مهمة في حياة..فقيدنا الغالي ..
هو صحفي وروائي وقاص مصري ولد “بالإسكندرية” في 17 فبراير 1938م،
وكان أبوه محاسبا ومترجما في نفس الوقت وله مكتبته الخاصة ،وقد أفاد محمد جبريل من مكتبة أبيه في قراءاته الأولى ويعتبرها سببا أساسيا في حبه للأدب.
بدأ حياته العملية سنة 1959م محررا بجريدة الجمهورية مع الراحل رشدي صالح ثم عمل بعد ذلك بجريدة المساء رئيسا ومشرفا على القسم الأدبي لفترات مختلفة..
كما عمل في الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديرا لتحرير مجلة “الإصلاح الإجتماعى” الشهرية، وكانت تعنى بالقضايا الثقافية.
كما عمل خبيرا بـ”المركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير”،ورئيسا لتحرير جريدة الوطن بسلطنة عمان لمدة تسع سنوات.
وحصل جبريل ، على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عن مجمل أعماله، ويعد إمتدادا لجيل عظماء الأدب العربي وفي مقدمتهم الأديب الكبير نجيب محفوظ الحائز علي جائزة نوبل، وأصدر عنه كتابا بعنوان “نجيب محفوظ صداقة جيلين”.
وأصدر جبريل أكثر من خمسين رواية فضلا عن مجموعاته القصصية وأعماله النقدية والفكرية ، ومنها كتابه الأشهر “مصر في قصص كتابها المعاصرين” الذي نال عنه جائزة الدولة التشجيعية عام 1975.
كما يعد جبريل الأب الشرعي لعدة أجيال أدبية منذ الثمانينات وحتى الآن، حيث تبنى وقدم عشرات الأدباء من خلال ندوة “المساء” الأدبية التي كانت أهم الندوات الأدبية فترتي الثمانينيات والتسعينيات.
وقد تبنت الناشرة “فدوى البستاني” نشر أعماله الأدبية إيمانا منها بعالمية الرجل، حيث بلغت الكتب المنشورة عن محمد جبريل وأدبه (13) كتابا.
ونشرت بعض قصصه القصيرة في ملحق الجمعة الأدبي بجريدة الأهرام المصرية.
كما درست أعماله في جامعات السربون ولبنان والجزائر وناقشت أعماله الأدبية العشرات من رسائل الدكتوراه والماجستير.
وهو زوج الكاتبة والناقدة زينب العسال وله من زوجته الأولى ابنان هما “أمل” و”وليد”.
وقد رشحه بعض المثقفين المصريين لنيل جائزة نوبل في الأدب.
وكاتبنا واحد من أبرز الروائيين المصريين الذين ارتبطت أعمالهم بمدينة الإسكندرية،حيث احتلت عروس البحر المتوسط مكانة خاصة في إبداعه وكتاباته.
وبرحيل محمد جبريل يفقد الأدب المصري والعربي أحد رموزه البارزين والمؤثرين..
وداعا عميد أدباء الصحفيين.. وخالص التعازي والمواساة لجميع أفراد لأسرته ولزوجته الأديبة الدكتورة فتحية العسال والتي عاشت مع رفيق دربها سنوات التوهج والأمل والألم حتي صعدت روحه الطاهرة لبارئها ووصل الجسد لمحطة الرمل بعد سنوات من البوح لا الشكوى..
إلي رحمة الله معلمنا وأستاذنا وسبحان من له الدوام وهو القائل:
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). صدق الله العظيم.