لا يخفى على أحد أن مصر ليست مجرد طرف في معادلة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، بل هي حجر الزاوية الذي تتحطم عليه كل محاولات العبث بالمنطقة. وبينما تتصارع القوى الكبرى على رسم خرائط جديدة ، تظل القاهرة ثابتة على مواقفها مستندة إلى تاريخ من الدبلوماسية المتوازنة والقوة الهادئة التي تصنع الفارق في أوقات الأزمات.
ما شهدته الأيام الأخيرة من تطورات سياسية متلاحقة لم يكن مجرد تحركات دبلوماسية عابرة بل هو انعكاس لجهود مصرية مكثفة تُدار بحرفية خلف الأبواب المغلقة. القمة العربية الطارئة في القاهرة لم تكن مجرد اجتماع بروتوكولي، بل كانت رسالة واضحة بأن العالم العربي – رغم التحديات – لا يزال قادرا على اتخاذ موقف موحد في قضايا مصيرية. جاءت خطة مصر بشأن مستقبل غزة كمقترح عملي يحفظ للفلسطينيين حقهم في أرضهم ، ويمنع سيناريوهات التهجير التي يسعى الاحتلال إلى فرضها كأمر واقع.
لكن قوة هذه الخطة لم تكمن فقط في بنودها، بل في قدرتها على فرض نفسها على طاولة المفاوضات الدولية ، رغم التعنت الإسرائيلي والمراوغة الأمريكية. لم يكن سهلا أن تخرج الإدارة الأمريكية – التي طالما التزمت بسياسات منحازة – من دائرة الجمود إلى مرحلة الحوار مع أطراف لم تكن تعترف بها سابقا. أن تلتقي واشنطن بحركة حماس ولو بشكل غير مباشر فذلك مؤشر على أن موازين القوى لم تعد كما كانت ، وأن الرؤية المصرية بدأت تأخذ حيزها في المشهد الدولي.
المثير في المشهد أن هذه التحولات لم تأت من فراغ ، بل هي نتاج معركة سياسية تديرها القاهرة بذكاء ، موازية لشراسة المعركة العسكرية على الأرض. فبينما تمضي إسرائيل في محاولاتها لإبقاء غزة تحت نيران القصف والحصار ، تعمل مصر على مسارين متوازيين: الأول هو الضغط لإنهاء العدوان وتثبيت الهدنة ، والثاني هو رسم ملامح ما بعد الحرب ، بحيث لا تكون غزة مجرد كومة من الركام تُترك للفوضى ، بل تُعاد إليها الحياة وفق رؤية متماسكة.
الضغوط الإسرائيلية لم تتوقف بل إن الاحتلال يحاول بشتى الطرق إفشال أي تحرك يمنح الفلسطينيين فرصة لإعادة ترتيب أوضاعهم. التلويح بإمكانية استئناف القتال، والترويج لفكرة أن حماس لا تزال تحتفظ بقدرتها العسكرية، كلها أوراق ضغط يحاول نتنياهو استخدامها لتعطيل أي حلول تفرض عليه تنازلات سياسية. لكن العامل الحاسم هنا أن الخطة المصرية لم تترك ثغرات تُستغل، بل جاءت متكاملة ، مدعومة بغطاء عربي ودولي يجعل من الصعب الالتفاف عليها.
المعادلة التي تفرضها مصر ليست مجرد رؤية لحل أزمة مؤقتة، بل هي إعادة ضبط لمعادلات القوى في المنطقة. حين تضع القاهرة تصوراً لمستقبل غزة فهي لا تتحدث عن مجرد إعادة إعمار، بل عن ترتيب جديد يمنع الاحتلال من فرض شروطه منفردا، ويمنح الفلسطينيين فرصة حقيقية لإعادة بناء دولتهم على أسس متينة.
ما تحقق حتى الآن ليس نهاية المطاف فالمعركة السياسية لا تقل تعقيدا عن المعركة العسكرية. إسرائيل ستواصل محاولاتها لكسر هذه المعادلة ، وواشنطن قد تناور بين القبول والمماطلة ، لكن ما هو مؤكد أن مصر وضعت حجر الأساس لحل لا يمكن تجاوزه. وبينما يستمر الآخرون في لعبة المصالح ، تظل القاهرة اللاعب الأكثر وعيا بخطورة المرحلة، والأقدر على تحويل المبادرات إلى خطوات فعلية تضمن للمنطقة قدراً من الاستقرار وسط أمواج السياسة المتلاطمة