كان طبيعيا أن ترفض أمريكا وإسرائيل الخطة المصرية التي أقرتها القمة العربية الطارئة بشأن إعادة إعمار غزة دون تهجير وإدارتها بدون حماس، فما زال ترامب ونتنياهو متمسكين بهدفهما المشترك للسيطرة على القطاع وإخراج أهله منه قسرا أو اختيارا، ليتم تحويله إلى مشروع عقاري (ريفييرا) كما يريد ترامب، أو إلى مشروع استيطاني كما يريد نتنياهو، والعرب يعرفون جيدا أن كلا المشروعين يشكل خطرا داهما أمنيا وسياسيا، ليس على غزة وأهلها فحسب، وإنما عليهم جميعا، ولو تحقق أي من المشروعين ـ لاقدر الله ـ فسوف يكون بداية لتنفيذ مخططات التوسع والهيمنة الصهيونية التي تشمل المنطقة العربية بأسرها، دون استثناء.
وبصرف النظر عن الخلافات البينية العربية، التي انعكست في غياب بعض القادة العرب عن حضور قمة القاهرة رغم المشاورات السابقة على القمة، ورغم خطورة التحدي الذي يهدد الجميع وضرورة إظهار الوحدة والتضامن المشترك في مواجهته، فإن الخطة العربية لغزة صارت واقعا يناهض مخططات ترامب ونتنياهو، ويطرح للعالم بديلا يمثل الحد الأدنى من احترام قوانين الشرعية الدولية والقيم الإنسانية، وسيكون على العرب جميعا مسئولية الدفاع عن هذا البديل، وتوفير الآليات التي تضمن تحقيقه على أرض الواقع، حتى لايكون مجرد كلام معلق في الهواء لإبراء الذمة.
ويراهن ترامب ونتنياهو على أن العرب ليسوا كتلة واحدة، وليسوا جادين في طرحهم، وليس لديهم استعداد للتمسك به والثبات عليه طويلا، ويفتقدون إلى رؤية جماعية للتعامل في حال رفضت خطتهم، لذلك يجب حملهم على تغيير موقفهم بالترغيب والترهيب، من خلال إظهار رفض أمريكي حاسم، والإصرار على أن مشروعهم غير واقعي ولن يسمح بتنفيذه، وقد يكون من السهل صرفهم عنه بالصمت والإهمال والالتفاف عليه، كما حدث لمبادرتهم التي طرحوها في قمة بيروت 2002 حول حل الدولتين.
وفي مواجهة هذا الرهان البذيء تصبح هناك حاجة ملحة لأن يتفق العرب على استراتيجية جماعية واضحة المعالم لمواجهة تحديات ما بعد القمة، للحيلولة دون فرض الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على قرارهم ومقدراتهم وكسر إرادتهم، وتبدأ هذه الاستراتيجية من الإدراك بحقيقة أنهم جميعا في قلب الخطر، وأنه لو انتصرت إرادة ترامب ونتنياهو في تنفيذ خطة التهجير ونزع سلاح غزة قبل إقامة الدولة الفلسطينية فسوف يكون سهلا عليهما بعد ذلك تصفية القضية، والانتقال إلى تطبيق السيناريو نفسه بشكل أو بآخر في بلدان عربية ما زالت تمثل هدفا ومطمعا للمشروع الصهيوني التوسعي.
ورغم انتكاسات وسلبيات كثيرة مرت فإن الدول العربية تمتلك أدوات ضغط فعالة، تستطيع بها التصدي لمخططات ترامب ونتنياهو، وأول هذه الأدوات العمل بحزم على توحيد الجبهة الفلسطينية، من خلال تطبيق ما اتفق عليه الفلسطينيون أنفسهم للمصالحة وإنهاء الانقسام في يوليو 2024، فيما يعرف بـ (إعلان بكين)، إذ لم يعد الأمر يحتمل مزيدا من المماطلة والتسويف، ولابد من إنجاز مهمة ترتيب البيت الفلسطيني على وجه السرعة حتى يتسنى البناء عليها، ولعل توافق السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة على تأييد الخطة العربية لإعمار غزة وإدارتها بعد انتهاء الحرب يكون مدخلا مناسبا لهذا الإنجاز.
وبعد موافقة دول الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الإفريقي والأمين العام للأمم المتحدة على الخطة العربية بشأن غزة لم يعد هناك من معترض عليها في العالم سوى أمريكا وإسرائيل، وهذا ما يفتح الباب واسعا أمام العرب لإحداث تغيير جذري في رؤيتهم للعلاقة مع أمريكا، والبحث عن شركاء وتحالفات جديدة، وسوف ينسجم هذا التحرك مع توجهات الكثير من حلفاء الولايات المتحدة الأقربين، الذين يشعرون بأن ترامب ينقلب عليهم ويعزل بلاده عنهم، ويهدم الثوابت الأمريكية المستقرة دوليا.
وبما أن التهجير القسري لمليوني فلسطيني من غزة يشكل جريمة حرب وفقا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، يصبح من حق الدول العربية إعلان انسحاب أمريكا وإسرائيل رسميا من الالتزام المشترك بالسلام، بما يعنيه من تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية وتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، ومن ثم فإن اتفاقات التطبيع التي تمت، وتلك التي في الطريق صارت مجمدة، وسوف يترتب على ذلك قطع العلاقات العربية مع إسرائيل، ووقف مشاريع التعاون الاقتصادي، أو ما يعرف بـ (السلام الاقتصادي).
وكانت مصر قد ألمحت في بيانات لوزارة الخارجية إلى أن “تهجير أهل غزة قد يؤدي إلى إفشال الاستقرار في الشرق الأوسط، وربما يخنق السلام مع إسرائيل”، وهو ما اعتبره المراقبون إشارة إلى أن السلوك الإسرائيلي سوف يضر باتفاقية السلام الموقعة بين الجانبين عام 1979.
ويعتقد ناثان جيه براون أستاذ العلوم السياسية والشئون الدولية بجامعة جورج واشنطن الأمريكبة أن البديل الوحيد القابل للتطبيق الذي قد ينال قبول ترامب في هذه الظروف، ويصرفه عن مقترحه المدمر، يتمثل في “صفقة سلام إقليمية تشمل إقامة دولة فلسطينية”، وهوما سترفضه إسرائيل حتما، لكن ترامب قد ينجح في فتح قناة تفاوض مباشرة مع العرب بدون إسرائيل، مثلما فتح قناة تفاوضية منفصلة مع حماس، ليسمع منهم رؤية متكاملة وطرحا محددا وحازما للسلام الشامل، ويقول براون إن “الضغط الشعبي لا يعني شيئا لترامب، لكن ما سيخلق التأثير عليه هو الخروج بنهج دبلوماسي منسق وقوي، يقربه من حلم جائزة نوبل للسلام”.
لقد أثبتت التجارب فشل التصور الإسرائيلي الأمريكي بأن السلام مع الدول العربية بعيدا عن الفلسطينيين هو ما سيؤدي إلى حل القضية الفلسطينية، وصار واجبا قوميا ووطنيا العودة إلى المسار الطبيعي، وهو أن التوصل إلى حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية هو وحده السبيل الصحيح والقويم للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وما دام هناك احتلال للأرض وانتهاك للمقدسات فكل حديث عن السلام هراء لايعول عليه.